محمود المراغي ينهي بحثه عن الحقيقة
هذه المرة لم يكن لدى محمود المراغي ترف الوقت كي يناقش، بالمنطق، وكي ينتصر بالحجة وبالأرقام التي تقطع الشك باليقين: القدر غلاب، والموت بديهة، وعلى قاعدته تنتظم المواعيد.
أغلب الظن أن محمود المراغي قد استقبل قدره بهدوئه المعتاد، حتى وإن كان قد استغرب أن يجيئه أبكر من المتوقع، ومن خارج جدول أعماله الحافل بالمواعيد.
يعرف محمود أن الموت يدهمنا بلا مقدمات اعتذارية. يختطف من شاء منا، ثم يتركنا غارقين في بحيرة الحزن وحيرة منطق الاختيار، ويمضي إلى آخرين…
محمود المراغي؟؟
الإنسان الرقيق الذي يحاذر أن يرفع صوته حتى لا يزعج من لا يريد سماعه، الصديق الصدوق الذي لا ينساك مهما اخذته أو اخذتك المشاغل إلى البعيد…
الكاتب المجيد، الدقيق، الامين الذي لا يستخدم رقماً إلا بعد تمحيص إذ يعتبره »أمانة«، والذي لا يقدم الاستنتاج، ولو صحيحاً، إلا وقد أسنده إلى المرجع الصالح.
محمود المراغي… الصحافي صاحب الموقف الذي لم تبدله الإغراءات ولم تجذبه المناصب، وحين ضاق عليه حصار السلطة التي انحرفت عن »طريق جمال عبد الناصر« ترك القاهرة خلفه لمن صيّره القدر صاحب الأمر فيها وقصد بعض صحف الموقف في الخليج، فعمل فيها بكد، مستفيداً من فائض الوقت كي يزيد من معلوماته وكي يوطد صلته الحميمة بالأرقام، فصار يقرأ السياسة بالاقتصاد أكثر مما يقرأ الاقتصاد بالسياسة، حيث الغرض يذهب بالدقة، او يسخّر الرقم لخدمته.
عرفتُ محمود المراغي منذ الستينيات، في »روز اليوسف«، وبعد اللقاء الأول صرنا ثلاثة أصدقاء: رفيقة عمره نجاح عمر، التي رحلت مبكرة، ومحمود وأنا… ثم في زيارات لاحقة للقاهرة صرنا حشداً من الزملاء الاصدقاء.
بعد سنين من التجوال، بين »الاهرام« و»العاشر من رمضان« والمرحلة الخليجية، عاد محمود المراغي إلى الصحافة السياسية ليتولى رئاسة تحرير صحيفة الحزب الناصري »العربي«، بعدما اجمع عليه هؤلاء المحازبون للاسم المختلفون على كل ما عداه. ولقد اجتهد فحاول أن يُبقي الصحيفة خارج صراعاتهم، لكن المحاولة تهاوت ثم كان طبيعياً أن تخرجه تلك الصراعات التي ستدمر مشروع الحزب وستنهك الصحيفة فتجعلها أقرب لأن تكون حديثاً بلغة الماضي عن مستقبل لا يمكن أن يستولده اولئك الذين يعيشون بذاكرتهم.
* * *
… وذات سفر، تلاقينا، وعرف محمود أن أسرتي التي اخرجتْها من بيروت محاولات تفجير البيت بها وعليها، قد انتقلت من المنفى الفرنسي إلى القاهرة، فجاء يدعونا إلى منزله الجديد الذي ابتناه في ريف الجيزة، خارج ازدحام المدينة المكتظة بملايينها العشرين.
ولقد ذهبنا فأمضينا معه وأسرته يوماً في تلك الضاحية الجديدة التي كان رائد البناء فيها الفنان والمبدع الراحل رمسيس ويصا، الذي ستعرف »الحرانية« بعده على أنها مصدر الجدرانيات والفخاريات المتميزة والتي ستحتل مكان الصدارة بين إبداعات الأطفال في الرسم على السجاد.
كان النحات العظيم آدم حنين، أول من استجاب لنداء رمسيس ويصا، فابتنى داراً من الطين، بأسلوب البناء الفرعوني القديم، وانتقل إليه مع رفيقة عمره فاطمة الديب، شقيقة الزميل علاء الديب، التي رحلت مبكرة.
وغدا بيت آدم حنين في الحرانية منتدى وملاذاً للهاربين من الذكريات السوداء لهزيمة 5 حزيران، يتوزعون بين اجنحته المتقاطعة، وسراديبه، أو في حديقته التي تتناثر فيها التماثيل التي ابدعها، يتجرعون كؤوس احلامهم الموؤودة وهم يستظلون اهرام الجيزة التي تطل عليهم من عليائها.
بعدئذ سيرتحل آدم حنين إلى باريس، وسيتولى »وكالة« الحرانية شقيقه المهندس نسيم هنري مع زوجته مبدعة الفخاريات انطوانيت السويسرية التي بزّت الفلاحات المصريات في انتسابها إلى »هبة النيل«، في حين سيصير منزل محمود المراغي دار الندوة للذين يريدون الحديث في عمق السياسة، اي في الاقتصاد، بعيداً عن دجل مخربي الاقتصاد لتبرير السياسات الخاطئة حتى حدود الخيانة.
كان محمود المراغي قد بات خبيراً في الاقتصاد، وباتت احكامه السياسية اكثر دقة، خصوصاً وهي مشفوعة برقته ومنطقه وتهذيبه »الملكي«، فصار حضوره أي مؤتمر دليلاً على جدية الموضوعات المطروحة وبارقة أمل بنتائج ملموسة للمناقشات بالأرقام.
ومن قبل كان محمود قد خاض تجربة القيادة الصحافية من موقع النقابة، فأعاد للعمل النقابي شيئاً من الاعتبار إذ اعاد ربطه بالقضية الوطنية وبالموقف السياسي الصحيح، مما استدعى تنبهاً من السلطة ادى إلى تطويق هذه النقابة ومعها مجمل النقابات وإغراقها جميعاً بالمرتزقة والمتعيشين حتى لا يعلو صوت على صوت السلطان، المشغول باستمالة البيت الأبيض كي ينصره على اسرائيل، فظل ينصره حتى ارتفع العلم الاسرائيلي في الجيزة، ليس بعيداً عن القصر الذي صادره السادات لسكنه، وفي مواجهة الجامعة المصرية ذات التاريخ العريق في النضال الوطني من أجل الحرية.
النهايات مفجعة دائماً، وللموت توقيته وأسلوبه البرقي: »توفي أمس الصحافي المعروف محمود المراغي، اثر نوبة قلبية، بينما هو عائد مع أسرته، من الاسكندرية إلى القاهرة، ولم يمهله القدر ما يكفي من الوقت للوصول إلى المستشفى«.
… وهكذا حين اوشك أن يعطي ثمرة الجهد والعمل الدؤوب والمتابعة الدقيقة، ارتحل محمود المراغي، بغير وداع.
محمود المراغي: الصديق، الزميل، رفيق المهمات الصعبة، الأب والإنسان، الدمث، الرقيق، الخبير المدقق، الثابت على المبدأ، والمؤمن بحق هذه الأمة في مستقبل يليق بأبنائها.
محمود المراغي: سنفتقدك كثيراً أيها الأخ الذي رفض اغراء السقوط في الخطأ، كما رفض المشاركة في سلطة لا يقبلها فكره وعقله وعاطفته.
وداعاً أيها الصديق الذي كان ظلاً ندياً في دنيانا التي يصحرها الاحتلال، اميركيا واسرائيلياً، من النيل إلى الفرات، وما قبلهما وما بعدهما، باستغلال تواطؤ »وكلائهم« المحليين، الذين اجتهدتَ طويلاً لفضحهم من دون أن تخرج على آداب المهنة وعلى اصولها.
ارقص… فسمو الأمير يأخذ عنك همومك!
في حين صار »الأورغ« هو الملحن الأول والأخطر والأبقى، صارت للغناء مصادر اخرى غير الحنجرة.
صار جسد الفنانة التي تقرر او يقرر لها خبراء الترويج هو الأساس في الغناء الحديث: من العينين إلى العنق، من النهدين إلى الردفين، من الفخذين إلى الساقين، مع شيء من الرقص الكفيل بكشف ما خفي بين الهضاب والوهاد.
لم يعد الغناء الحديث بحاجة إلى ملحن ولا إلى شاعر ولا إلى مطرب أو مطربة.
فأما الكلمات فيمكن »تدبيرها« من عند بياع الفلافل، أو من عند جامع القمامة، أو قد يوفرها أي حوار طرشان بين عابر سبيل في قطار بلا محطات وبين مسافر في طائرة لا تطير.
عباقرة التلحين بلغوا من التفوق على الذات ما يمكنهم من تلحين نشرات الاخبار والكلمات المتقاطعة وسائر بنود زوايا التسلية في الصحف والمجلات، و»الأبراج« منها على وجه الخصوص.
ثم انهم لا يحتاجون إلى فرق من الموسيقيين، يكفي واحد سليم الأصابع لتحريك مفاتيح »الأورغ« بما يتناسب مع »ايقاع« الكلمات الخالية من المعنى، حتى تنهض الراقصات ويبدأن في هز اوساطهن والخلع مع الايقاع أو خارجه، المهم أن يتحركن بما يحرك مكامن الاثارة، لتكتسب الكلمات دلالاتها الفعلية وليثبت اللحن في الذاكرة بوصفه الإطار التجميلي للأجساد المهتزة على ايقاعه الهزاز.
صار السرير جزءاً من اللحن،
ومع السرير الحمام،
أما ذروة النغم فتكون في »المغطس« مع رغوة وفيرة من الصابون المعطر، تفسح في المجال للسباحة طربا تحت الماء.
كذلك دخل الاقتصاد عنصراً اساسياً في الإطراب: بفتات من الكلمات المفرغة من المعنى، ومزيكاتي من الدرجة التاسعة، ومؤدية مكشوفة الجسد، وبضع راقصات لا تهم مصادرهن الاصلية، بلغاريا او الفيليبين، تايلاند ام المكسيك، اوكرانيا ام رومانيا، ام »صناعة محلية« من الأرياف أو من »النَّوَر« أو من خدم البيوت… تصنع عشر أغنيات!
لماذا التعب، و»الاغنية« تعيش بالساعة؟!
شركات الانتاج موجودة، وتتزايد باستمرار، بل لقد دخلها امراء يسبق موكبهم لقب السمو… وهذه الشركات »عصرية« و»مستنيرة« الافكار، لا تعرف التعصب للغة، او للتراث الموسيقي، او لرخامة الصوت. انها تعيش في عصر السرعة، وليس اسهل من انتاج الف لحن اغنية رقصة في الساعة.
الدولارات كثيرة، وكل جميلة مرشحة لان تكون نجمة، وكل ناظم يرصف بعض الكلمات بما يناسب »الدلوعة« شاعر، وكل من طقطق على الطاولة ملحن..
ها هو سمو الأمير يتبرع لأن ينسيك همومك جميعا.
هيا، ادخل العصر: من قبل كان سعيد الحظ من الرعايا هو من يشرَّف بأن يُعتمد مؤنسا للامير، ولو بالتهريج… ها هو سمو الامير يعمل لامتاعك وادخال البهجة الى نفسك. ها هو يعمل من اجل الارتقاء بذوقك حتى الرقص!
هيا ارقص! أترفض دعوة سموه، ايها المتمرد، ابن النكد، المتعوس وخايب الرجاء؟!
كمين للحب
دائماً »يقع« اللقاء في قلب الزحمة! دائماً ثمة ما يمنع من اكتمال الاعتراف.
إلى متى سيظل العنق يحترق بهمسات البوح التي لا تعرف طريقها إلى الشفاه؟!
دائماً يجيء التلاقي في تظاهرة من المتلهفين إلى العشق… ويتوزع الحب على »الجمع الغفير« فلا يتبقى لها منه بقدر ما ترغب، ما تتمنى، بل وما تستحق.
لا تحب أن تنتسب إلى جمعية الحب الطائر. لا تحب أن تقف في الطابور لكي تنال نصيبها من كلمات تمني بالحب أكثر مما تعبّر عنه. لا تحب أن تحب قديساً. ثم، من قال إنه يرغب في دور القديس؟! إذن، فلماذا الاستمرار في الهرب من مواجهة الوضع المغلوط؟ عليها أن ترتب كيف تنتزع منه اعترافه. لتفكر بالخطة.
ولكن… هل يجيء الحب عبر كمين؟! هل هي بصدد اصطياد كلمة حب؟! وهل ترويها مثل هذه الكلمة المغتصبة؟!
أخذتها العزة بنبل الغاية فدعت من تتوهم أنهن منافساتها عليه، ودعت معهن من يصلحون كشهود على انبلاج مفاجأة الاعتراف.
انتصف الليل ولم يحضر، فعوّضت غيابه بأغنية، فثانية فثالثة، ثم قامت إلى الرقص، وظلت ترقص حتى أخرجته منها تماماً.
وعندما انفضت التظاهرة اكتشفت أنها الآن بالتحديد بحاجة إلى الاعتراف بالحب.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يمكن ان يكون المحب أنانيا، يحتكر حبه لنفسه.
اشعر بأنني استطيع ان اوزع من حبي على الناس جميعا ثم أظل طائرا بجناحيه.
الحب اوسع من الدنيا. انني اراها تدور في مداره فيعطيها المعنى ووجوه الجمال التي تكرم انسانيتنا. لا تكون انسانا إلا بالحب.