جمر سمير شاهين يضيء سنوات العمر… والموت!
لم يُسعدني حظي بالعمل وسمير شاهين في مؤسسة صحافية واحدة إلا أقل مما يكفي لتحويل الزمالة الى صداقة، خصوصا انه كان قد سبق الى المهنة والى النجاح فيها، كما انه كان نجماً في اجتماعيات السياسة، في حين كنا نحن الذين نسمي أنفسنا »صغار كبار الصحافيين« نتسكع عند ابواب المطاعم في الفنادق الفخمة او امام البوابات المرصودة لعلب الليل وانديته الانيقة… بزبائنها وضيوفها وبالذات الضيفات الآتيات من البعيد لاسعاد ممثلي الشعب العنيد بقيادة أهل الثروة فيه.
كان مميزاً في اناقته، وفي الكتابة مميزا بحبره الاخضر، وفي المعلومات بسعة اطلاعه، اما مروحة صداقاته ومعارفه فكانت تشمل »الكبار« من السياسيين في لبنان، والعديد من أهل الحكم كما من المعارضين في معظم البلاد العربية مشرقاً ومغرباً… وكثيرا ما لعب من خلال موقعه المهني ادواراً سياسية، فصالح بين مختلفين، وخاصم من أخلّ بتعهد قطعه له، او من ضلله بمعلوماته او من حاول الافادة من قلمه لغرض خاص.
وكنا ننظر إليه، نحن ابناء الفقراء، على انه »ابن عز«، وانه ينفق اكثر مما يتقاضى من عمله الصحافي، وبالتالي فهو قادر على حماية الصداقات بالكرم وعلى المعاملة الندّية مع السياسيين لانه اقرب لان يكون مثلهم وجاهة، واقدر على حماية موقعه المهني ومواقفه من اصحاب المطبوعات التي عمل فيها، لانه بنفسه الكبيرة يستطيع ان يحمل قلمه ويمضي عند اول تصادم الى بيته، واثقاً من ان مطبوعة اخرى او اكثر ستتصل به طالبة ان يتعاون معها… بشروطه!
كانت تلك ايام عز الصحافة والسياسة في لبنان، بين أواخر الخمسينيات وبداية السبعينيات.
كانت بيروت، كما وصفتها غير مرة من موقع »الشاهد«، الشارع الوطني العربي والمنتدى السياسي العربي، والمقهى والمشفى والمصرف، والمطبعة والكتاب والنادي الثقافي وصحيفة الصباح… وكان بوسعك ان تلتقي مشاهير الساسة، حكاماً ومعارضين، في فنادقها ومقاهيها ذات الصيت »الدولي«، »فالهورس شو نهارا«، و»الدولشي فيتا« و»الدبلومات« و»دبيبو« و»الغلاييني« و»الايدن روك«، فضلاً عن »بار السان جورج«، هي الملتقى ليل نهار، اما علب الليل فتتسع للمنادمة والمسامرة والمساهرة لمن يحب ان يشهد الفجر حاضراً… وحاضناً او محتضناً، وكذلك لمن يحب ان يتبارى في انواع الرقص الوافدة حديثاً، او لمن يفضل ان يتعلم الرقص على ايدي »نجوم« الفرق الآتية من البعيد يسبقها الامل بأن تحقق احلامها في ليلة مع احفاد »هارون الرشيد« او بعض ورثة امجاد »شهريار« القيمين حراساً على ابواب ألف ليلة وليلة!
ولقد تسنى لسمير شاهين ان يعيش امجاد النهارات ومتع الليالي في بيروت التي لم تكن تنام ولا كانت تسمح لاحد من عشاقها بالنوم فيها… اقله منفرداً!
…ومنذ سنوات »اختفى« سمير شاهين من دنيا الصحافة… وافترض معظمنا ان هذا الصحافي الانيق قد كسر قلمه احتجاجاً على الحرب الاهلية التي الغت السياسة والصحافة، والوجاهة بطبيعة الحال، ولم تنجب غير المآسي والمخازي والزعامة بالقتل، خصوصاً اننا لم نعد نلمحه إلا في مناسبات التعزية بفقيد قتله الغلط، او في تشييع شهداء السياسات المفخخة قاتلة الجماعات بغير تمييز بين شيخ وطفل وعامل يسعى الى لقمة العيش الحلال او فنان عظيم يقف في الطابور أمام الفرن ليأتي بالخبز لعائلته فيتم اغتيال الارغفة ويتناثر جسده بأحاسيسه المرهفة لوحة مفجعة لم يُنتج مثلها رسام عبقري القدرة على تشويه مخلوقات الله واسباب الجمال الانساني الباهر.
فجأة، اطل علينا سمير شاهين من حيث لم نتوقع: من كتاب دسم الصفحات بالمعلومات والذكريات وصور الزمن الجميل، يتضمن ما اعتبره مذكراته في السياسة والصحافة، ثم سرعان ما الحقه بجزء ثان عن »سنوات الجمر«، التي احرقت قلم سمير شاهين في ما احرقته من اسباب الحياة ومن مصادر التوهج في لبنان الذي رحل ولن يعود.
في الكتاب الذي يتضمن استعادة على الورق لما لا يستعاد في الحياة، يتبدى سمير شاهين كما عرفناه دائماً: صاحب مواقف لا تلغيها المجاملة، وحافظ ود لا يلغيه اختلاف الرأي، و»ابن عز« لا يطلب عملاً ولا يقبل بأي عمل، بغض النظر عن الموقف السياسي.
في كتاب سمير شاهين يمكنك ان تجد »ارشيفا« للحياة السياسية، بنجومها المتقلبين صعوداً وهبوطاً، في عصر ازدهار السياسة ومن ثم الصحافة في لبنان، وقد كانت بحق صحافة العرب.
ولسوف تعرف نجومَ السياسة والمجتمع والصحافة، في لبنان وسائر دنيا العرب، كما لم يعرفهم الا من عاشرهم اناء الليل واطراف النهار، مثل سمير شاهين، الذي يحفظ الود لمن يرى انه يستحقه، ولا يغفر لمن يحاكمه فيراه من وجهة نظره مخطئاً، خصوصاً ان الاخطار الفاحشة التي ارتكبها الساسة في لبنان خصوصا، وفي الدول العربية عموماً، قد اوصلتنا الى ما نحن فيه من ذل وانكسار وتيه في دنيا لا تعترف إلا بالاقوياء!
تبقى ملحوظة لا بد منها وهي ان نبطية سمير شاهين تبدو وكأنها »بطل« الرواية… فمنها البداية وإليها المنتهى، وسمير ليس اكثر من راوية لبعض امجاد النبطية باعتبارها احد مراكز التنوير في جبل عامل، وهو تنوير امتدت اشعاعاته الى ما »خلف النهر« من هذا المشرق العربي المهدد بإظلام طويل اذا ما استمرت سياسات سلاطينه في مسيرتها المدمرة التي نعاني منها وتعانون!
…ولأنه ابن النبطية، قلب جبل عامل الذي لم ينس اصله، فقد اهدى عمره كتابا الى »شهداء التحرير«! وفي هذا الاهداء كل ما لم يكتبه قلم سمير شاهين مما يسكن قلبه.
السقوط عند باب الجنة
لم تكن جميلة، لكن رفيقها كان يتعامل معها وكأنها المرأة الاخيرة في الكون! ان مدت يدها الى طبق امامها سبق الى فمها فلثمه ثم اطعمها بيده واحتضنها وهي تمضع اللقمة… وان رفعت كأسها انحنى عليها معانقاً، ثم امسك لها كأسها وهي ترتشف منها شرابها. اما حين باشر ضابط الايقاع مداعبة طبلته تمهيداً لعود المغني فقد باشر مراقصتها جالساً وهو يطوق رقبتها بذراعيه.
كانت علبة الليل مزدحمة بروادها شبه الدائمين الذين يدخلونها جماعة ضاحكين ويغادرونها متفرقين متعثرين بهمومهم التي لم يذهب بها الشراب.
وكان معظمهم يعرف المرأة ولا يعرفون هذا المفجوع، فقدروا انه آتٍ لتوه من الصحراء بعد سنة من الغياب… وغمزت لهم المرأة، مرتين وربما ثلاثاً، فتأكدوا من سلامة تقديرهم وقرروا التساهل مع هذا الآتي من بئر الحرمان، وهكذا اداروا وجوههم بعيداً عن الطاولة التي قاربت ان تصير سريرا.
تنقل المغني بصوته العريض بين الالحان التي تأخذ الى النشوة، وقام صاحبنا يحاول مراقصة صديقته في الممر الضيق بين الطاولات المتراصة. مال يمينا فصدم طاولة، ومال يسارا فصدم طاولة اخرى، وعندها اتخذ قراره الفذ: رفع معشوقته الى طاولته وركع يضبط لها الايقاع بالتصفيق! ثم في لحظة قرر ان يرتقي الى حيث هي، فلما عجز عن رفع جسده، ركعت على الطاولة لتدانيه، فأخذ جذعها بين ذراعيه، تاركا رأسه يتمايل مع حركتها ذات الشمال وذات اليمين وقد غام بصره فلم يعد يرى إلاها…
مع الرقصة العاشرة كان قد ثمل تماماً، ولكن متعته منعته من الانصراف. ونجحت صديقته في اقتياده الى الحمام… فتنفس جيرانهما الصعداء، لكنهم هبوا بعد لحظات مفزوعين حين سمعوا صراخها وهي تستنجد بهم ليساعدوها في حمله بعدما سقط مغشياً عليه خارج جنة الاحلام الخضراء.
تهويمات
÷ كانت القاعة مزدحمة بالعيون، وكانت قد خبأت عينيها في كفيه، ولم يكن يعرف اين يخبئ عطرها حتى لا يشي بسكره. نشرت شعرها ليلاً وهمست: انت في امان الآن. ولم يجد شفتيه لكي يجيب.
÷ قالت: لا احب الجلوس الى هذا المقعد البارد. انه يشعرني بالغربة. أنا هنا بعيدة، احتاج لأن ارفع صوتي الى اقصى مداه فلا تسمعني. أفضّل هذه الاريكة، فهي تتسع للهمس.
صارت الاريكة خيمة… وشدته عيناها فتاه عن الباب، واكتفت بظله مهجعاً. وحين انصرفت اكتشف انها نسيت ظلها فاتخذه سكنا!
÷ لم يتسع الليل للموعد، فلما جاء النهار احرقت الشمس المكان، فاكتفت بأن تلقي عند شاطئ البحر، الذي رفض ان يتركها لوحدتها، باقة من الورد لأي عاشق لا يملك ثمن وردة لحبيبه.
عينان لاكتشاف كروية الأرض
ازدحمت مائدة الغداء بأصناف القهر العربي.. ومع كل صحن جديد من فواتح الشهية كان الحديث يتوغل داخل المزيد من جراح العجز عن المعالجة إلا بالهراوات والمعتقلات ومصادرة الهواء.
لا يدري هل هو الضجر من سماع المكرر والمعاد من أحاديث الخيبة أم هو الشعور بلسعة النار ما جعله يمد بصره نحو الزاوية التي كانت تنفجر بالضحكات القصيرة كما النداء… وحين تلاقت العيون آمن بأن الأرض كروية، وأنها الآن قد أكملت دورتها فجاءت بها لتنقض أصل الكلام.
ألا يستطيع الحب أن يغيّر واقعاً مهيناً لكرامة الإنسان؟
وأين أحاديث السحر والمعجزات التي يجترحها الحب؟
هل يحب المهان؟ وهل ينجب مهدور الكرامة؟
ها هي التماعات العينين السوداوين تسقط أصل الموضوع وتسحب من أحاديث المائدة تلك التعابير التي تذهب بالشهية بغير أن تحل المعضلة.
ولكن… هل نملك من الحب ما يكفي؟
المسألة إذن نقص في الحب، وخلل في دوران الكرة الأرضية وخلل في انفلات الإنسان من وهم الثبات الأبدي لكل من تحت الشمس.
الأرض كروية. ستمتد مطاردتك حتى لا يتبقى مأوى لمن وأد الحب في صدره وكره الشمس وجعل الحياة سجناً بدل أن يراها ويعيش فيها كجنة من صنع قلبه ويديه.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
واجه همومك، مهما ثقلت احمالها، بالحب…
وانت محصن بالحب ستكون اقوى من هرقل، اما وانت اعزل من الحب فلسوف يهزمك اي اشكال او اي تقدير خاطئ!
الحب يهدي الى الصح. الحب يفتح عقلك وعينيك وقلبك. الحب يجعلك كاملاً، يعصمك من الخطأ، ويسدد خطاك نحو النجاح.
قوتك حبك! اللهم احشرنا في زمرة الاقوياء!