»أبو فارس الدحداح« يجعل قواعد النحو لعبة للأطفال!
لا صلة ظاهرة بين الماضي المهني للمؤلف، المبتدع، ولا نقول الكاتب »ابو فارس الدحداح« وحاضره ومن ثم مستقبله كما يخطط له عبر مشاريع الاصدارات الجديدة لكي يستكمل بها إنجازه الملفت في المجال الصعب: اللغة العربية بصرفها ونحوها وقواعد الإعراب التي يهرب منها الكبار قبل الصغار، والتي غالباً ما تتخذ ذريعة لهجر هذه اللغة التي يراها البعض »بائدة«.
»ابو فارس« انتج حتى اليوم احد عشر معجماً في قواعد اللغة والمصطلحات النحوية (عربي فرنسي، وعربي انكليزي) وفي تصريف الافعال العربية وفي لغة النحو، وفي الإعراب في النحو العربي. وبعدها اصدر »ابو فارس« معجم إعراب ألفاظ القرآن الكريم ومعجم الألفاظ والجمل في القرآن الكريم، ثم تفسير الجلالين ولباب النقول في اسباب النزول.
اما آخر مبتكرات »ابو فارس الدحداح« وإصداراته فهو: معجم الإعراب الملون من القرآن الكريم، وسيليه قريباً شرح الدحداح على الفية بن مالك.
الكتب الخمسة عشر الاولى نشرتها مكتبة لبنان، اما الكتابان او المجلدان الاخيران فمن اصدار مكتبة العبيكان في الرياض بالسعودية.
»ابو فارس الدحداح« بدأ حياته ضابطا في سلاح المدفعية، ثم تابع دورة في المدرسة البحرية في برست فرنسا عين بعدها قائدا لسلاح البحرية، وبعد دورة دراسية في مدرسة القيادة والاركان في لنغورث بالولايات المتحدة، عين مديراً للشؤون الجغرافية في وزارة الدفاع، وحين تولى سليمان فرنجية رئاسة الجمهورية، عينه مديراً عاماً للأمن العام، وانتهى من العمل الحكومي وهو سفير في البرازيل…
بعد ذلك انصرف ضابط المدفعية قائد البحرية مدير الأمن العام، السفير انطوان الدحداح الى التأليف في علم العربية.
لقد اكتشف عالم الكومبيوتر متأخراً، والأهم انه اكتشف ان قواعد اللغة العربية محكومة بقانون رياضي… وعبر هذا الجهاز السحري اخذ يتوغّل في »حقل« لم يكن يعرف عنه إلا المبادئ العامة، وهكذا انفتحت امام عينيه كنوز هذه اللغة المذهلة بغناها، والتي تضبطها قوانين علمية اساسها الرياضيات.
من هنا فإن البداية تمثلت بنظم قواعد اللغة العربية في جداول ولوحات… ومع السباحة في بحر اللغة وقواعدها انتج معجم الإعراب في النحو العربي.
بعد ذلك كان لا بد من العودة الى الاصل فأصدر »ابو فارس الدحداح« سلسلة من المعاجم عن الالفاظ والجمل في الفاظ القرآن الكريم وجملِه وفي تفسير الجلالين.
الكشف الأخير الذي يقدمه »ابو فارس الدحداح« بزهو هو معجم الإعراب الملون من القرآن الكريم.
لقد جعل »ابو فارس« لكل كلمة، وبحسب موقعها واعرابها لوناً: الاحمر للمرفوع والازرق للمنصوب، الاخضر للمجرور، البنفسجي للمجزوم، والبني للفعل المبني واسم الفعل، اما الاصفر فللحرف… ثم نثر الجمل كلمات وحروفاً معطياً كلا منها اللون الذي يدل على إعرابها، بحسب موقعها، وهكذا بات ممكنا بنظرة متعجّلة وعبر الألوان ان يدرك القارئ حركة الكلمة بحسب موقعها ومن ثم »وظيفتها«.
تصرف »ابو فارس« مع الكلمات والحروف وكأنها »جنود« لها انتظامها ولها انضباطها المحكوم بقواعد »عسكرية« صارمة… لكنه حاول ان يبسّط المنطق وان يعصرنه عبر هذا الصندوق السحري، الكومبيوتر، الذي لا يخطئ في نظامه و»لا ينطق عن الهوى«… فإن انت انجزت »البرنامج« فلسوف يدرج النظام الكلمات في سياقه بغير اشكالات او اخطاء، تماما كأي قانون، كأي منطق، باعتبار ان المنطق مثله مثل الموسيقى والفلسفة والشعر والهندسة والفلك من الرياضيات، الصح صح والخطأ خطأ ولا مجال للمساومة.
لقد اهتدى »ابو فارس الدحداح« الى اسلوب علمي عملي في تبسيط قواعد اللغة، ثم استند الى القرآن الكريم لكي يستنبط للإعراب طريقة طريفة تعتمد على اللون الدال على الموقع والوظيفة وتبرر (بل تفرض بالمنطق) الحركة…
ومن شأن مثل هذا التبسيط لقواعد اللغة والإعراب والتسهيل باستخدام اللون ان يقرب اللغة من اذهان اطفالنا بعد عيونهم ثم من قلوبهم وبعد ذلك من عقولهم.
العسكري السابق الذي ما زال كحرف »الالف« يمشي منتصباً ويجلس بغير انحناء، برغم تجاوزه السبعين من عمره »أمر نفسه« بإنجاز هذا العمل الكبير فانضبط وأنجز…
الانجاز الجديد لأبي فارس الدحداح يذكّر بكبار رحلوا وبقوا في وجداننا بينهم احمد فارس الشدياق واليازجيان والبساتنة، مع فارق أساسي أنه بدأ من حيث انتهى العمل (الكومبيوتر وتوظيفه لإنجاز معاجمه) بينما كانوا يعتمدون على الدراسة المعمقة والابحاث التي تستغرق سنوات قبل أن ينجزوا فيقربوا لغتنا الجميلة الى قلوبنا.
شفيق حامد: لقاء مع الشهامة في زمن القتل!
شق النور المبهر للسيارة المقبلة علينا قلب العتمة وقلب اليأس الذي كنا نخب فيه عند طرف بلدة الباروك، بينما الثلج يواصل انهماره رذاذاً ناعماً كالغبار الفضي، بل كنثار من الزجاج له القدرة على اختراق الثياب وصولاً الى العظم.
كنا ثلاثة من الرجال انزلقت بنا السيارة فتحطّم هيكلها المصفح، وكان علينا أن نكافح بشراسة لكي نخرج منها بينما مقدمتها في اسفل الخندق وذيلها في مستوى الطريق العام.
… والزمن حرب، و»الغريب« عدو الى ان يثبت العكس، و»الجندي« موضع ريبة فكيف اذا كان سلاحه في يده… والوقت منتصف الليل او قبله بقليل، فمن تراه يكون بسلاحه على الطريق إلا ذاك المريب الذي يكاد يقول خذوني!
تخطتنا سيارة عابرة لليل والثلج لعشرات من الامتار، ثم توقفت وعاد بها سائقها نحونا. لم يسأل كثيراً، قبل ان يهتف: تفضلوا، ادخلوا السيارة فسنتدبر الامر قبل ان تتجمّدوا.
في عين زحلتا التي يظللها الصنوبر وتحيط بها بساتين نبع الصفا ويجللها أرز الباروك، قال شفيق حامد لنسيبه: »فلتبق اسرتي في ضيافتك«… ثم انطلق بنا الى منزله الغارق في قلب الهضبة الخضراء على كتف نبع الصفا.
تعارفنا بينما هو يشغّل مولد الكهرباء ويشعل النار في »الصوبا«، ويسخِّن الماء لتدليك الاطراف المجمّدة بالبرد واستكشاف مواقع الكسور، قبل ان يندفع لتحضير ما تيسر من طعام ولإعداد اسرة النوم لهؤلاء الذين هدّهم التعب والصدمة والبرد وانعدام وسائل الاتصال والمواصلات، في ظل مناخ الحرب.
تجمعوا من حول »الصوبا« يتسامرون. لم يكن صعبا ادراك انه الى جانب صفاته المميزة الكثيرة قارئ ممتاز حتى لقد حسد المنكوبون الثلاثة تلامذته الذين تدلّ طيبته انه يفيدهم بثقافته العامة اكثر مما تفيدهم الكتب المدرسية الرسمية الرشيدة.
افترقنا وقد أنعمت علينا المقادير بصديق يشبه من كنّا نتخيّلهم، ونحن صغار، حين نقرأ عمن أغاث الملهوف، وأنقذ التائهين، وآوى ابناء السبيل.
قبل أيام، جاءني النعي صاعقاً: البقاء لله… لقد رحل شفيق حامد.
هل كثير على مثل هذا »الشهم« ان نودّعه بأن نستذكر ما كان عليه من خلق رفيع وشهامة ودماثة وثقافة تنير مع عقله قلبه، وهو كان يوزع كل ذلك على تلامذته وعلى عابري الخطر في ليل الثلج من قبل ان يعرف اسماءهم ووجهتهم ومواقفهم السياسية!
سنذكرك دائماً حين نعدّ الرجال يا شفيق حامد.
حكاية لشراب المهجورين
دار الكلام بعدما فقد موضوعه يبحث عنهما في الزاوية الدافئة والمتروكة للقاء القادمين الى نسيان النهارات المثقلة بالفجائع وانهيارات الآمال العراض.
كان الكلام يتعجل لحظة التغلغل في بيدر شعرها المنداح ليلاً معطراً، لكي يمتلئ بالمعنى حتى حافة الشعر.
وجد الكلام ذكرا وانثى يتعانقان في بوتقة الهمس الحميم… وصادفه، عند باب الخروج، من تجاوزا حدود الحوار فجاءا الى حيث يخفت الضوء والصوت والقصد والوقت وتعشى ابصار الشركاء في منتدى المراهقة المتأخرة.
قال له النادل: لعلك أخطأت العنوان! لا يأتي الى هنا من يرغب في ان يسمع صوت غيره. احيانا لا يكون لي من زبائن الا زوجان، كهل وصبية، او فتى ومتصابية… وأطيل غيابي عن النظر، ثم أجيء من بعيد تسبقني النحنحة المنبهة الى وجودي، واقف الى جانبهما متأملاً (بطرف عيني)، وقد احرك كرسيا او اتعمّد خبط قدمي برجل طاولة، ولكنهما يظلان مستغرقين في الرحلة نحو اكتمال النشوة… وانصرف مقدرا انهما انما جاءا الى جب النسيان، هنا، بينما جئت أنا لكي تنتبه اليّ الدنيا. ولطالما نقدني الكهل »الشهم« ثمن محو ملامحه، ولطالما نقدتني المتصابية من خلف ظهر »فتاها« ثمن حفظي ملامحها حتى لا أخطئ فيها او نحوها. ولطالما دفع لي الفتى حتى لا اذكر انه جاء وانتظر فلم تأت، ربما لان غيره قد عرف عنوانها فسبقه إليها. ولطالما دفعت لي الصبية حتى احفظ صورتها وأنسى رفيقها.
وقال النادل: مرة، أشفقت على متصابية نزفت عيناها كل الدمع المدخر لليأس فيهما. قدمت لها كأسا وحكاية. شربت الحكاية وتركت الكأس… فشربت الكأس حتى أنسى حكايتها المكررة والمعادة.
عند الباب تعثر الكلام ببعض الجمل التي فاض بها المكان فقفزت من النافذة تبحث عمّن وجد الرفيق ولم يجدا معا ما يقولانه… ومرّت به امرأة نسيت اسمها فطفقت تردد بلا انقطاع اسم »الخائن« الذي باع نفسه الى »الشيطان«… اما »الخائن« فكان يبحث في »قطيع من النساء« عن امرأة تحب ان تعرف رجلا ستتركه قبل ان يتركها، من غير ان يسأل احدهما الآخر عن اسمه!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب زمن لا يمكن حصره بين عقربي الساعة. الوقت الذي يثقل حتى يصير دهراً هو ذلك الفاصل بين لقاءين… لذلك يرى المحبّون في »العقربين« مفسدين للبهجة!
زمني حبيبي، يأتي اليّ بقمر الليل ونجمة الصبح وتشرق به الشمس فتنشر فرح الحياة على كل الناس.