سليم الحص »السياسي« يحاصر الأديب
لم يكن سليم الحص يملك ترف الاختيار فدرس الاقتصاد ودرَّسه وهو الذي كان يقتر على نفسه حتى لا يأخذه الخطأ في الحساب الى الدين، والدين الى الفوائد والفوائد، الى العجز، ثم عمل في شركة نفطية وهو الذي يحتاج الى جرعات إضافية من الهواء النظيف، قبل ان يستقر في الرقابة على المصارف وهو الذي لم يكن يملك ما يفتح به حسابا لدى مصرف.
وبغير اختيار او خيار، أيضاً، هبطت عليه رئاسة الحكومة مع نهاية العام 1976، وفي لحظة تبدّت وكأنها قد تصلح خاتمة »لحرب السنتين«، فدخل عالم السياسة متوهماً ان الموعد مع »السلم« قد حان، فإذا حروب ما بعد السنتين تستهلك حكومتيه، وتستهلك احلامه بالخلاص، وتخرجه مكتوياً بالأحزان والمرارة والخيبة والفجيعة بكثير من الرموز والشعارات والرجال.
بالاضطرار ايضا، عاد وزيرا في حكومة ما بعد لوزان، ثم وجد نفسه بعد اغتيال رئيسها رشيد كرامي مضطراً لأن يتولى رئاستها »بالوكالة عن شهيد«، ثم وجد نفسه في موقع النائب عن »رئيس الدولة« بعدما فرغ الموقع من شاغله بغير انتخاب بديل، حتى جاء مؤتمر الطائف، وبعده جاءت »عاصفة الصحراء« التي بدّلت صورة المنطقة جميعا، وأمكن في غمارها خلع »التمرد« وعودة الوضع الى سويته »الشرعية«، فأتيح لسليم الحص ان ينهي فترة تجنيده وأن يعود الى قلمه وهدأته ليكتب تجاربه.
وفي كتابة تجربته لم يتخذ موقع »المؤرخ«، ولا أعطى نفسه دور القاضي، إنما اكتفى بتقديم شهادته الشخصية، منتقيا ما يناسبها من النصوص والوثائق، مستخلصا ما استوعبه من الدروس.
وفي هذا المجال كان سليم الحص نموذجا فريدا بين السياسيين العرب، وليس اللبنانيين فقط، إذ إنه كان المسؤول الوحيد الذي ما ان يخرج من ديوان الحكم حتى يقدم للناس خلاصة تجربته في كتاب تمكن العودة إليه، والنقاش معه، لمحاولة فهم ما حصل وربما ما سوف يحصل في هذا البلد الصغير المفتوح على السياسات الكبيرة وأعاصيرها الكثيرة.
وقد يختلف الناس من حول سليم الحص المسؤول، كرئيس للحكومة خلال دهور المحنة التي لمّا تنته، ولكنهم يتفقون على تقدير »الكاتب من موقع الشاهد« الذي سجل كل ما عرف ورأى وسمع وخبر في الحكم وعبره او وهو في الطريق إليه او الى الخروج منه او في فترة الاستراحة بين حكومتين.
وقد ينتبه الناس متأخرين الى انهم كانوا سمعوا الكثير مما يقرأونه في كتبه ،منه،وهو في الحكم، لكأنه كان يتكلم وهو يحدد سلفا موقع كلماته في الكتاب الذي سيصدر غداة مغادرة »السراي«.
في كتابه الجديد »للحقيقة والتاريخ« يتبدّى سليم الحص في صورة مغايرة عما ألفه الناس لهذا الطارئ على السياسة والحكم، والذي ظلوا يحسون انه أقرب إليهم من »الآخرين«، وأنزلوه من نفوسهم منزلة »الضمير«.
في هذا الكتاب يتخلى سليم الحص عن سمت الرصانة الذي ميّزه دائما ليستكمل فوق صفحاته حرب الدفاع عن الذات والوجود التي خاضها طوال تجربته الأخيرة في الحكم طوال السنتين الماضيتين.
وعلى خلاف عادته في كتبه السابقة فإن لغة كتابه الجديد تبدو حادة جداً، وهي تتخذ نبرة هجومية قاسية لتنتظم في سياق مطالعته الدفاعية، وتتوغل به داخل غابة السياسة، بمناوراتها ومؤامراتها، بدهاليز المخابرات وأقبية المال السياسي وتأثيراته المباشرة على المواقف والعواطف والآراء عموما وعلى الإعلام بشكل خاص.
في هذا الكتاب لا أثر تقريبا للغة الاديب سليم الحص، برهافة مشاعره، وبحس النكتة المميّز عنده، وبالاستعارات والإيماءات التي تغني عن التشهير وان كانت توصل المعنى المقصود.
اللغة مباشرة، حادة غالباً، تحمل أثر الجرح والخيبة ومرارة افتقاد النصير، حتى في جبهة الأصدقاء والحلفاء والذين طالما لجأوا إليه هاربين من السياسيين التجار.
لم يستثن من هجومه الدفاعي أحدا: لا بعبدا و»صديقه النبيل« فيها الرئيس إميل لحود، ولا دمشق والقيادات فيها بمجملها، من رحل ومن تولى مؤمِّنا الاستمرارية، ومن في الطريق إليها، ومن يدعي الحديث باسمها في بيروت.
إنها مطالعة دفاع عن سنتين مثقلتين بمحاولات النهوض والخيبات، بمرارة افتقاد النصير وطغيان التحريف او التشويه المتعمد، مع حرص شديد على تبرئة الذات مما قد يؤخذ على الحاكم: فهو يميّز نفسه عن قرارات اتخذت برغم معارضته ويرفض المنطق الذي لا يقبل منه، مثلا، القول بأنه امتنع عن التصويت على قانون الانتخابات في مجلس الوزراء، ثم صوّت معه في المجلس النيابي التزاما بالتضامن الحكومي.
»ليس في الدنيا لعبة إلا ولها قواعد، اللهم إلا اللعبة السياسية في لبنان.
».. من أجل ذلك يحلو لي ان اقول انني كنت متفرغا للسياسة ولكنني لم اكن محترفا لها، فالمحترف السياسي هو الذي يسعى للوصول الى الحكم، وإذا كان في الحكم فهو يسعى للبقاء فيه، واذا خرج من الحكم فهو يسعى للعودة إليه، ويشهد الله انني لم أسع يوما للوصول الى الحكم او البقاء فيه او العودة إليه…«.
انه منطق متطهر لا يكاد يجد له صدى في عالم السياسة، ولا يكاد يقبله احد حتى من سليم الحص.
فليست النهايات كالبدايات، ولا مجال لاستمرار الأبرياء أبرياء في هذا الميدان الذي يعج بالقتلة والضحايا والمرتكبين والسماسرة وأبطال الصفقات والطامحين الى السلطة بأي ثمن والساعين الى الوصول على حساب كل المقدسات.
ولعل كثيرين سيستغربون »الخاتمة« التي تكاد تشبه النعي والتي طرّزها الالم الشخصي على هامش التجربة السياسية لسليم الحص:
»سنوات طويلة سلختها من عمري في خدمة الشعب والوطن
» أرادوا، في اغتيالي سياسيا، محو سيرتي من ذاكرة هذا الوطن،
»إن سيرتي الوطنية أعز ما أملك، وأغلى ما أترك لأحفادي
»… إلا أنني لست نادما على عمل قمت به
»فحيث وفّقت وحيث أخفقت كان ذلك من جنى يدي. والله ولي التوفيق.
»وأنا لم أطلب يوما أمرا لنفسي، ولا اقترفت يدي ما يثقل ضميري.
»حسبي القول، امام ما واجهت من عقبات وعوائق وصعوبات: اللهم اشهد انني حاولت«.
من موقع التقدير نقول لسليم الحص ان مرارته الشخصية تأخذه الى استنتاجات خاطئة، فذاكرة الوطن ليست أداة في يد أحد، ولا يملك سياسي ان يمحوها او ان يدخل إليها بقوة النفوذ او الجاه او المال.
ولأن لبنان بلد الاستثناءات فقد أحلّ الناس سليم الحص في موقع »الضمير« مع انهم يعرفون ان السياسة بلا ضمير، وأن المتطهر قد يخرج أكثر الناس تضرراً من هذا المسرح المفرغ إلا من الشياطين.
عسانا، بعد حين، نستعيد سليم الحص الأديب الذي يتمتع برهافة حس الشاعر ويختزن لغة قرآنية الوهج والذي يملك من الظَرَف ما يعوّض عن »قرف« الهاوي الذي أخذه الاضطرار الى حافة الاحتراف.
رحيل الفرسان
لكأنه زمن رحيل الفرسان، الذين سقطوا بالتعب وليس باليأس، بالحزن وليس بالاستسلام.
في أسبوع واحد غاب »فتى مصر« الذي حاول بالإسلام ما لم ينجح في إنجازه بالماركسية، عادل حسين، بعدما ملأ الدنيا وشغل الناس بالمناظرات والخطب والكتابات التي من نار، وغاب »الباشا« الذي صار مناضلا شيوعيا بغير ان يفقد ارستقراطية السلوك والكلام، علي الشوباشي الذي أكد عروبته بكل اللغات الحية وأخطرها وأبهاها رفيقته زميلتنا المقاتلة الى الأبد فريدة الشوباشي.
شحب الضوء في الثقافة السياسية العربية عموما، وفي مصر على وجه الخصوص.
لم يترجل احد. وحتى عندما افتقد البعض الميدان، فإنه قد لجأ الى صمته يكتب به تجربته، بغير مرارة.
نقصت انوار القاهرة »فانوسين« كانا علامتين على طريق المحاولات الجادة لإشاعة الصح وطرد الزائف والمزوَّر.
ومصر ولاّدة… والمخاض عسير.
عنوان العيد
ننتظر لكِ ومعكِ العيد.
الأمهات في لهفة لاكتمال بك، يا التي تستولد عيناها الربيع كل يوم.
في دنيانا بعض رائحة الجنة، تنثرها ثلاث امهات في انتظار بهاء التي ستكون عنواننا المرتجى.
إعلان
قديم هو إعجابي بمحمد دكروب كاتبا وناقدا ومحاولة دؤوبة لاستكمال دائرة المعارف بالجهد ونور العينين.
ثم جاء امتحاني الأخطر منه حين تولى مراجعة »هوامشي« هذه لكي يختار منها مادة للكتاب الذي أصدرته دار الفارابي، انيقا، رشيقا، ومزدانا بلوحات لفارس غصوب تتحدى جميعها كلماتي الهشة بأن تضيف إليها ما يتعدى الرمز.
وها أنا اعلنها صريحة: من قرأ »هوامش« كتاباً فأعجبه فالفضل لمحمد دكروب وفارس غصوب وجوزف ابو عقل (دار الفارابي)، ومن لم يعجبه فالعيب فيّ وحدي، والمسؤولية عليّ منفردا، حماكم الله من التفرد والانفراد!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
إياك وأن تمتحن حبيبك في كبريائه. فإن أسأت فأحرجت بالإلحاح، رغبة بإشباع أنانيتك والتباهي على الآخرين، كنت كمن يغتال حبه.
احم حبيبك بأن تحفظ لحبك كرامته، فلا تذله فيك او فيه، تحويله الى موضوع للمفاخرة بين من تراهم حاسدين او قاصرين عن بلوغ عتباته.