تخاريف رمضانية على الباب العربي للألفية!
تطل الألفية الثالثة على العرب وليس في يدها حزمة من الورد الجوري أو الوعد المزهر بالأمل.
تطل متجهمة، مدلهمة، كأنها تستعير ملامح بعض حكامهم التي نشروها عبر صورهم على الجدران وفي الشوارع وفي الهواء وعلى شاشات التلفزيون واقتحموا بها الأنترنت وكأنهم ورثة بيل غيتس.
لا هي تحمل بشرى بلون الياسمين ولا هي تجيء محملة بما ينقصهم من الإرادة والثقة بالنفس والقدرة على الإنجاز. مخترعو الصفر أصفارا صاروا!
سيغلق القرن العشرون أبوابه، هذه الليلة، وينطوي على ذاته داخل الذاكرة وصفحات الكتب السميكة ورقائق الكومبيوتر ومحفوظات الأنترنت.
أغلب الظن أن هذا القرن الحافل بالثورات والابتكارات والاكتشافات العلمية العظيمة والحروب المدمرة والانتصارات المدوية لبعض المعسكرات والهزائم الساحقة لمعسكرات كانت بين أعظم الأمبراطوريات عبر التاريخ، سيستبقي »العرب« داخله، أو انهم سيطلبون اللجوء السياسي إليه خوفاً من المجهول الذي ينتظرهم في غدهم الغامض والذي لم يتعبوا كثيراً من أجل أن يستحقوه، فضلاً عن أن يجعلوه أفضل.
لن تطال أيدي العرب المكبلة بالأصفاد أو المغلولة الى أعناقهم بما وصلهم من موروثهم الديني والثقافي، ملتبساً أو معتلاً بالغرض أو بسوء القصد أو بالتوظيف السياسي، أبواب القرن الحادي والعشرين لتفتحه، ولن يستطيعوا اختراقه بكفاءاتهم وابتكاراتهم وقدراتهم العلمية وهي بين معطلة في بلادهم وبين منتجة لحساب الغير في بلاد الآخرين، البعيدة دائما والمعادية.. غالبا!
كيف يرى ما أمامه ذلك الذي يربط وجهه إلى ظهره ويلوي عنقه الى الخلف ويهيم على وجهه بين ماضٍ لا يستطيع استعادته وبين مستقبل لا يعرف طريقه إليه؟!
إن العرب يتذبذبون بين النقيضين: ينفخون حاضرهم بوقائع منتقاة ومصفاة من تاريخهم فتأخذهم عقدة العظمة الى استصغار شأن الآخر ونسيان حقائق الحياة، حتى إذا انتبهوا إلى جسامتها وإلى قصورهم عن أداء موجباتها انطووا داخل عقدة الصغارة وافتقدوا أهليتهم لاستحقاق نعمة الحياة!
»لنا الصدر دون العالمين أو القبر«..
والعربي المزدهي بنفسه لا يقبل عربيا ثانيا إلى جانبه، هو دائما إما فوق الآخر وإما تحت الآخر، نادرا ما كان مع الآخر، رفيق الآخر، شريك الآخر.
ليس العرب حاصل جمع العرب. كلما ازدادت أعداد العرب تزايدت فرقهم ومجاميعهم وكتلهم بل آحادهم (ولو دولاً) المتفرقة، بل المبعثرة الى حد التمزق.
في لحظات يبدو وكأن »العرب« كلمة جمع افتراضية، سندها الأساس، وربما الوحيد، اللغة وبعض الرموز التاريخية المشتركة في الماضي والتي ليس لها من اثر فاعل في الحاضر، والأرجح انه لن يكون لها دور محدد في المستقبل.
وفي لحظات يمكن تخيل المئتين وخمسين مليونا من العرب يتدافعون عند باب القرن فيسدونه ولا يدخلون.. لأن كلاً منهم يريد الدخول قبل الآخر، إما لأنه يفترض نفسه الأهم والأولى والأحق بالدخول أولاً وإما لخوفه من أن تكون المقاعد محدودة فإن دخل غيره أقفل باب الجنة دونه!
ولأن العربي لا يعرف نفسه تماماً، ولا يريد أن يعرفها، فإنه لا يعرف العالم ولا يعرف موقعه منه. انه حين يلغي العربي الآخر يلغي نفسه، أو انه يقزمها، وهكذا يتحول العرب في نظر العالم الى مجموعة من الأقزام، بينما واحدهم لا يرضى بأقل من لقب »العملاق«… وكثير منهم من يتوهم ان هذا العالم ما وجد أصلاً إلا لكي يسوده هو فيحكمه، ثم مع ارتطامه بالوقائع الصلبة والباردة يصير طموحه أن يحكمه الأقوى (من بين الدول) على أن يحكِّمه ببني قومه أو بالمتيسر منهم!
* * *
هي الهزيمة؟ هو عدم الثقة بالنفس؟ هو نقص الأهلية؟ هو افتقاد الأساس المادي للانتماء الوطني، القومي؟! هو انقطاع حبل السرة بين الواقع والتمني، بين القدرات والحلم؟! هل هي العاطفة تحل محل المصلحة فإذا ارتطمت بها اندثرت؟! هل هو الافتراق عن الواقع الذي نهرب منه الى الوهم حتى يصدمنا فيعيد إلينا وعينا به على شكل تسليم به، مهما كان رديئاً، ثم نهرب منه بالشعر؟!
في الماضي كان العرب يصنعون آلهتهم من التمر فإذا جاعوا أكلوها..
آلهة التمر التي تحكم العرب هذه الأيام، والتي اصطنعوها، أو سلموا بها واستسلموا لها، كلما جاعت أكلتهم… وهي جائعة أبداً، لا تشبع حتى ولو أكلت الأمة كلها!
* * *
لعل »بعض« العرب قد أنفق عن سعة على احتفالات الألفية الثالثة، والتحرر من أثقال القرن العشرين!
لعلهم قد أطلقوا من الأسهم النارية ومن المهرجانات الضوئية أكثر مما أطلق في البلدان الصانعة للمركبات الفضائية والصواريخ العابرة للقارات، وأجهزة الكومبيوتر العابرة للعقول.
لعلهم أكثر من حجزوا الفنادق الغالية ذات النجوم العديدة والحدائق الواسعة وملاعب التنس والاسكواش والمسابح الدافئة ذات الجدران الزجاجية الكاشفة لجمال السابحات..
لكن كل ما أنفقوه لن ينفع في حجز مساحة قدم لهم في القرن الجديد.
لكأنهم تعبوا من صناعتهم التاريخ، في الألفية الأولى، فخرجوا منه ثم لم يعودوا إليه إلا كخدم وحشم للصناع الجدد للتاريخ المضاد.
لو أن سعر النفط ما زال على ارتفاعه لصاح بعض »أصحابه«: بكم هذه الألفية؟! اشتروها وأرسلوها إليّ في البيت!
لكن النفط قد انخفض سعره وغلا مقداره وعلا مقامه فارتفع الى من يتحكم في منابعه وفي خطوط مواصلاته وفي مصافيه وفي أسواق بيعه، فصار عبئاً يثقل عليهم ويتسبب باحتلال أراضيهم وإرادتهم، خصوصاً أنهم لا يملكون وقف إنتاجه أو تخفيض الكمية أو تحديد السعرأو اختيار المشتري.
ذهب النفط. ذهب الاستقلال. ذهبت فلسطين. ذهبت الحرية. جاء رمضان. أهلاً رمضان. اللهم إني صائم. من يناقش صائماً؟!
لنؤجل النقاش الى ما بعد عيد الفطر…
والعيد في القرن الحادي والعشرين، وهو مطلع الألفية الثالثة!
اطمئن… سيدخل العرب القرن الجديد والألفية الجديدة من باب العيد!
الظل يهرب عائداً إلى صورته
انفجر الخرس مدويا: لقد هرب الظل عائدا إلى صورته، واستعادت شجرة الياسمين عطر زهرتها اليتيمة، وذوت الابتسامة التي كانت تشرق عبر الباب المغلق على العبث، تاركة خلفها وشماً يشبه الجرح الذي نزف حتى محاه بياض الخواء!
ملأ عجز الشيخوخة المكان الفارغ من حفيف الطيف وهو يسري متنقلا بين الرغبات المعلنة وتلك المقفل عليها في مآقي العيون المفتوحة على الرغبة الخرساء.
ولدت الظنون أجنتها المخبوءة دفعة واحدة: لماذا وأين وكيف ومن؟!
من؟ من؟ من؟ يعضه الجواب الذي يعرفه بالغيرة التي ينكرها: لو اختلف المكان… لو تقدم بها الزمان!!
ليس الحزن. انها الحسرة. ليست هي. انه هو.
يأخذه الغياب المباغت الى الحقيقة التي لا مجال لطمسها: لا سبيل الى الوصول، وعبثي هو الحساب الذي ليس فيه غير الخسائر!
لا تستسلم الأوهام ببساطة. تظل تلح عليه حتى ليفرضها التوهم وكأنها حقائق لما تكتمل: ماذا لو انك حاولت؟ ماذا لو تسلقت الظنون لاكتشاف الينابيع الغائرة خلف الصفحة السمراء للشهوة النائمة فارتويت ورويت حديقة الورد التي تفتقد رعاية الشوك الحارس للشذى؟
لماذا يعتصره هذا الأسى الذي يختلسه اختلاسا من أوهامها وكأنها سرقت منه أحلامه واحتمال التكامل فوق سرير التخيل؟
وأحلامها؟ من أعطاه الحق بأن ينتحلها لنفسه؟ بأن يتوغل فيها، وهل يعينه عجزه على مثل هذا الاقتحام الحرام والسباحة في قلب المستحيل؟
يهرب من هزيمته. لا يريد أن يسلم بأنه لم يكن أصلا في الميدان، وليس من حقه إدعاء الشرف بمنازلة ذلك الحب الشاحب الذي التحقت به متخطية حدود الغيم وتخوم الضوء.
ليقنع، مرة أخرى، بطيف الابتسامة التي كانت تمتد سريراً لأحلامه.. كلما سعى إليه هرب منه النوم.
غارت الاحلام في وهدة الغياب. لم يتبق له غير ثرثرة الصمت الصاخب لظنونه وهدير الرحيل الذي استبق الموعد تاركاً خلفه حزمة من عطر الياسمين وشوك الورد المهجور.
الشعر لريناد.. والكاتيوشا!
يأخذنا الأحفاد إلى الشعر حتى لو كنا لا نتقن الكلام.
ينتزعوننا من أخطائنا وخطايانا، من همومنا الثقيلة ومباذلنا الرخيصة ويحملوننا على أجنحتهم الرقيقة إلى ما كنا هجرناه أو نسيناه أو تنازلنا عنه أو تخففنا منه حتى نسرع الخطو إلى مصالحنا البريئة من شبهة البراءة!
تفضحنا عيونهم التي تختزن الكلام والاتهام، وتكشف ما كافحنا طويلاً لطمسه أو لإخفائه أو لنسيانه… لكننا نندفع لنغرق فيها لعلنا نتطهر ونستعيد أسماءنا الأصلية.
في مواجهتهم نرمي أقنعتنا الثقيلة، ونسترجع وجوهنا التي كدنا ننساها، ونهجر التأتأة والجمل المسبوكة نفاقاً والتي تنطقها ألسنتنا بغير تفكير، أو كبديل من التفكير، ونغادر شبكة مصالحنا وهمومنا لنجدد علاقتنا بالفرح المنسي، ونتعلم الأحرف والأرقام من جديد. ننتبه فجأة الى المعنى المطموس أو المقتول غيلة.
ننحني لكي نتعود فنحتمل، من جديد، عبء الاستقامة.
.. ولأن مريم شقير أبو جودة صارت جدة فإنها صارت شاعرة. كانت تكتب كلمات حبلى بالمعنى، لكنها تنتظر مواسم الخصب لتنتشر كغنة ناي متوحد على ضفة نهر بلا مصب.
أما عندما وجدت »المحاور« مع ولادة »ريناد« فقد تفجرت الأمومة، مجدداً، شعراً ونثراً وآراءً مطلقة في كل الناس وكل شيء، وتبلورت علاقة جديدة بالحياة والمعنى.
وعبر »ريناد« تدفقت مريم شقير تثرثر بكل ما كانت تحتبسه، من آراء في السياسة وفي المسائل الكبرى، والتي كانت تحجبها في طوفان ثرثرتها التي تحجب فيها ضحكاتها صدى البكاء في داخلها.
لكأن الكلام الجميل كان مدخراً لريناد. ولكأن المواقف الكبرى كانت تنتظر ريناد لكي تعلن.
فمع ريناد لا تجوز المخاتلة وممنوع هو النفاق وطمس الآراء الحقيقية..
عادت مريم شقير أبو جودة بنت الأرض المحتلة، ميس الجبل، لتكتشف أن الكلمة شقيقة الكاتيوشا، وأن السنوات التي تتراكم على قشورنا تفقدنا أهم حواسنا: الانتماء إلى الصدق..
ومريم ليست الجدة القديمة التي كانت تدخر للحفيدات حكايات ليلى والذئب، والزير سالم، وعنترة وعبلة، خصوصاً ان »الذئب لم تقتله ليلى، ولا يزال يختال مزهواً، وليلى هربت نحو الجبال، والزير مقتول بأول طلقة يوم المذلة التي هدمت كل الرجال«..
ثم إنها فرصة لتقول مريم رأيها في التحرير والمحررين، في الشعراء والكتاب والنقاد، وفي الوطن الذي على السكين يرتعش، وفي الأطفال الذين لا يثأر لهم أحد، وفي الطفلة التي سترمي اللعبة لتستبدلها بقنبلة صبيحة الغارة.
صارت مريم وريناد طفلتين.
بل صارت ريناد ومريم مناضلتين.
وريناد تتقن القول قبل القول، وتبدأ حين تبدأ بلهفة، لكن الجدات والجدود لا يفهمون حوارها.
مريم صارت طفلة وريناد جدتها التي تكبر كل يوم في ظل الجنوب الأسير والكاتيوشا المهددة بالاعتقال.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب لمن يعيش بلا أحلام، وأشفق عليه لأنه يعيش خارج الحب. فالحب هو الحلم، ومن يعش خارج الحب فهو مسكين يكاد يموت برداً. أما أنا فإنني أستوطن الحلم لأن الحب يسكنني. وها أنا أغمض عيني فأدخل حلم حبيبي وأغلق الباب حتى لا يغادرنا الندم، ثم نبث الدفء ليسافر فيه التائهون إلى الحب.
طلال سلمان