الوطن بكوفية بيضاء ومكبّر صوت للحب المقيم
تمر السنون، تتبدل الفصول، تنحني بعض الهامات من غير أن يتبدل الموقف، وبالتالي المنطق والدلالات.
يتكرر نشر الصورة فلا يُنقص التكرار المعنى، ولا تذهب الصورة إلى هزال »البروباغندا«، بل تبقى نابضة تشيع في متأمليها كثيرا من الأمل المستنقذ من بين ركام الخيبات ومرارات الهزائم.
لا تشحب وجوه الملوّحين بقلوبهم فوق أيديهم للوطن المحجوز خلف السلك الشائك وفوهات المدافع، ولا يخفت البريق المتوهج في عيونهم التي يغشيها الدمع المتجمد بالقهر الذي حوّل الوطن إلى منفى!
يقف الرجال متكاتفين في نصف دائرة، تتقاطع ملامحهم عبر الشمس حتى لتكاد تبدو وجوههم وقد توحدت في وجه واحد أسطوري الهيبة كالحقيقة… أما رؤوسهم فتنسدل فوقها الكوفيات البيضاء مضفية على المشهد روحاً جهادية، كمن يلبس كفنه ليؤكد علاقته بالحياة.
تحت الأنوف المستقيمة تنتصب الشوارب المطلقة التي لم يعتنوا كثيراً بتشذيبها فتحجب بعض الشفاه لكنها تضفي مزيداً من المهابة على المنظر الحزين. الحزن يعزز الكبرياء ولا ينقص منها… كذلك فهي تضفي صدقية مطلقة على الكلمات المعادة، والتي تبدو في كل مرة وكأنها أول الكلام وختامه.
الوطن ليس في الخارج، لا يحجزه سور نيران الاغتيال، ولا تلغيه الخنادق التي تشق صدره ولا تنال من قلبه… وهم في موقفهم هذا أعظم وجوداً في داخله مما لو كانوا في ساحة المرجة بدمشق. قد تحجزهم الأسلاك الشائكة فتفصل بينهم وبين سائر إخوتهم، ولكنها تتهاوى تحت ضغط إرادتهم وإيمانهم من دون أن تخرجه منهم أو تخرجهم منه.
الوطن بإنسانه. الإنسان بأرضه. والراية جبهة عالية لرأس يستمد شموخه من التصاقه بالتراب المقدس. أليس عبر التراب نصلي؟!
ينقل الهواء نبضات القلوب مع لواعج الشوق وتمنيات اللقاء القريب.
لا يأخذ منك الاحتلال وطنك. يدخلك الاحتلال الى عمق القيمة. تصبح ملزماً بأن تجسد بشخصك وفي شخصك الوطن وكل شعبه. تصير الأمة جمعاء. تصبح أنت الراية والنشيد وحارس تخوم الغيم والمطر وفرح الأيام الآتية.
بعد الاحتلال تصبح أعظم صرامة مع نفسك. تنتبه إلى كلماتك أكثر، تحاذر أن تبتسم أو تنساق إلى ممازحة، تنتبه إلى ملامح وجهك كما سينقلونها بعدساتهم الى العالم ليتخذوا منها شاهداً على »عدالتهم« وعلى »اهتمامهم« وعلى »حسن رعايتهم« للمقهورين باحتلالهم.
يصير الاحتلال مصدراً للمشاريع الانمائية، ومولداً للطاقة الكهربائية، ومصدر دخل إضافياً يوفر الشبع لمن كانوا جياعاً في ظل دولتهم التي »بالكاد كانت تعترف بهم«!!
وتصير أنت »الرمز« ومكثف الوطن والشعب. ولقد يداخلك الزهو بأنك قد صرت كل شعبك. ويغمرك شعور ثقيل الوطأة بالمسؤولية إذ يجتمع فيك الرئيس والحكومة والمجلس النيابي والإدارات والشعب جميعاً ووعد التحرير.
تتأمل الصورة من جديد: لقد صار الوطن مجرداً. تأنسن فاتخذ لذاته ملامح هؤلاء الذين اتخذوا منه وجوههم… ولقد شفَّت العلاقة معه وصفت حتى لتتجاوز مشكلات الحياة اليومية ومصادر البؤس فيها جميعاً.
تنهض القيم وتتراجع التفاصيل والمنغصات، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم خليطاً من ذلك كله.
يسأل المذيع بصوت له رنين سبطانة المدفع: ولكنك تتمتع هنا، الآن، بدخل أعلى مما كان يتوفر لك قبل العام 1967!
يرد الكهل الذي يحمل قلبه فوق وجهه: تأخذ بلدي وترمي لي قروشاً ثم تطالبني بالشهادة لعدالتك! لا آكل مثل هذا الخبز المسموم!
يقول المذيع كأنه »يمنّ« على مَن يسأله: ستعود إذن إلى الوطن…
يصحح له العجوز الذي اكتسب في وقفته الآن أمام العالم الخارجي فتوة ابن العشرين: الوطن هنا. هم سيعودون إلينا. نحن لم نغادر ولا الوطن غادرنا!
ترفع الأيدي مكبرات الصوت. تنطلق الأصوات خشنة، عريضة، وقد غابت عنها رقة العاطفة: انهم يسمعوننا ويرصدون كلماتنا والأنفاس. حذار الكلمات الملتبسة. حذار النسيان وإغفال استعدادهم للتصيد بابتسار المعنى أو سوء تفسير القصد. لا بأس من إرجاء الحنين واللهفة وبث النجوى. الرسائل الآن سياسية. نحن الآن في الموقع القيادي. نحن الآن الطريدة. علينا أن نثبت أهليتنا بأن نخاطب التاريخ وبأن ننطق باسمه.
للصوت صدى وجع الأرض.
يُكتب التاريخ بالصوت الحي أحياناً.
في الجانب الآخر يبدو »المستوطنون« المدججون بالسلاح والشراسة ووحشية سارق الأرض والماء والهواء، وهم ينتفضون بالخوف والقلق والعجز عن رد القدر.
العزَّل مطمئنون تماماً. متوحدون مع أرضهم. هم في صخرها وتربتها، في وهادها والتلال، في شجرها والوعر. في السواقي وزقزقات العصافير التي تلاغيهم وتعرفهم واحداً واحداً من أنفاسهم ومن صدى وقع خطواتهم على الطرقات المتربة.
الوطن ليس في الخارج. لا تحتاج الى تأشيرة لتستعيده ويستعيدك، ولا يحتاج الى التعرف الى موقع الباب فيك.
يظل الاحتلال خارجاً مهما طال أمده. الإيمان يبقيه في الخارج.
إذا هو دخل ألغاك. لا بد من أن تبقيه خارجك فتلغيه.
لا يذهب الزمن بالأرض. لا هي تشيخ ولا تهاجر راحلة عن أهلها لتختار لنفسها أهلاً آخرين. إنهما متلاصقان، متداخلان، متكاملان حتى ليستحيل وضع حد أو تخم أو تحديد سقف أو عمق أو مدى لصلة الرحم التي تبدأ مع البداية ثم تمتد حتى النسل الذي لم يولد بعد.
الوطن فيك. لا يجيئك من خارجك، ولا يحمله إليك الآخر، ولا هو يستطيع أن يخرجك منه. يحتله فيحتلك، وتحرره فيحررك.
يسقط الاحتلال عن الوطن عيوب السياسة، وعن العلاقة معه شبهة التأثر بالعصبية. تصير العلاقة صوفية، نقية، مطهرة من آثام المصلحة والغرض ونفاق السلطة.
عد إلى تأمل الصورة ينتعش صدرك بالأمل.
الجولان بعض وطنك… وأهله هم الأهل.
سمير شاهين: قلمه مثل قلبه لا يشيخ!
لم نعمل معا، ولم تيسر لنا ظروف الحياة أن نلتقي إلا في مناسبات عامة وفي قلب »الحشد«، وظلت بيننا مسافة من الغربة وفوارق النشأة والاهتمامات،
ومع ذلك فحين تواجهني أزمة، أو يشد عليّ ظرف عصيب، أو تجيء لحظة فرح نادرة بإنجاز مهني، فإنني كنت أنتبه إلى أن سمير شاهين يقف الى جانبي بغير طلب وبغير منة.
مع سمير شاهين تعرف معنى حقيقيا للصداقة.
قراره أن يكون معك، لا غرض ولا مصلحة وليس مجرد عاطفة، بل هو إلى الموقف أقرب.
أخيرا وبعد صمت استطال دهرا تكلم سمير شاهين، الصحافي الذي أوقف نفسه عن العمل الصحافي لجملة اعتراضات بينها السياسي وبينها المهني وبينها التعب من الأيام وصروفها.
أمسك سمير شاهين بقلمه الذي هجره طويلاً وكتب »ذكريات من الصحافة والسياسة«، وهي تتجاوز السيرة الذاتية الى ما يشبه »وصف الأحوال« في لبنان على امتداد نصف قرن أو يزيد، تمتد من ذكريات الطفولة في النبطية الى استعادة لأبرز ما أنتج في المجلات والصحف التي عمل بها لأكثر من ثلاثين سنة بدأت مع أوائل الخمسينيات في مجلة »الأحد« لصاحبها المرحوم رياض طه ثم في »الحرية« و»الأنباء« وجريدة »الدستور« قبل ان يسهم في إطلاق »الأسبوع العربي« التي قدم فيها أهم نتاجه الصحافي.
ولأنه شفاف فإنك تقرأ عبر سطوره آراءه في الناس جميعا، بدءاً بأهل بلدته النبطية التي كانت في زمن يفاعته مركزا ثقافيا ممتازا، مرورا بزملائه، سواء »الكبار« ممن تتلمذ على أيديهم، أو »الأصدقاء« الذين عاش معهم وحفظ ودهم، وانتهاء بالسياسيين الذين التقاهم فاستجوبهم وعارضهم وخالفهم من دون أن يفسد للود قضية.
جمع سمير شاهين في الكتاب الذي عانى في ولادته كثيرا، خصوصا وأنه أشرف على تفاصيله جميعا، معظم كتاباته الصحافية التي تتراوح بين أدب الرحلات والتحقيقات والمحاورات السياسية إلى جانب بعض »البورتريهات« أو »الصور الداخلية« لشخصيات عرفها واقترب منها بالمهنة أو بالرغبة،
والأهم أن عودة سمير شاهين الى القلم جددت في نفسه حلما قديما بأن يصدر جريدة أو مجلة انتقادية بالاسم الذي لا يهرم »المضحك المبكي«.
يظل الصحافي صحافيا حتى الرمق الأخير.
وسمير شاهين عاش حياته الصحافية كاملة، في الليل وفي النهار، في السياسة وفي الاجتماعيات، وأوصله وده ودماثته ولسانه الدافئ والأهم: وسامته، الى قلوب الكثير من الحسناوات اللواتي يخطرن عبر ذكرياته كالشهب فلا تعرف أيهن التي أحبها أكثر، أو أحبته أكثر، ولكنك تستنتج ببساطة ان هذا الزميل العتيق حقق في الليل نجاحات ممتازة كالتي حققها في النهار وان سمير شاهين كقلم وكقلب لا يشيخ.
زخة مطر للمحبين
تأخر موسم الحب حتى ضرب الجفاف الصدور والعيون والأرض.
تشقق صدر الأرض، وأصاب اليباس جنباتها.
ماتت البذور التي استودعها الفلاح أحضانها، ووئدت المواسم المرتجاة.
جفت الأنهار و»العيون« وكفت السواقي عن الثرثرة بأغاني الخصب.
خلت العيون من ذلك الوميض الآسر.
سار الناس متجاورين، لكن كلاً منهم بدا مشغولاً عن الآخر بمشكلاته. لا ينفع عَطِشٌ عَطِشاً.
تشققت الشفاه، وذبلت الخدود وانسحب عنها ورق الورد متساقطاً كأوراق الخريف الذي تمدد داخل الشتاء فكاد يلغيه.
هي زخة مطر…
زخة واحدة من دفق الحب الإلهي، وبعدها عادت الأرض جنة: تراجعت الصحراء عائدة الى مهاوي النسيان، وبرزت الجبال رافعة قممها وقد ارتدت سفوحها الثوب الأخضر المخبوء للاحتفالات.
استعادت الطيور أصواتها والنغمات..
عادت إلى النجوم إشراقتها، وسرى من جديد ذلك الهمس الواعد الذي يأخذ الناس إلى متعة الأحلام خارج النوم.
وهتف لي حبيبي: أحبك مبللاً!
غنت الأرض عشقها بصوت الرعد، وانطلق البرق يبشّر الناس بعودة الحب مطراً يسقي العطاشى الى الخير والجمال ومتعة أن يصيبك البلل وأنت تحت نافذة الحبيب تتسلق إليه حبال المطر المجدد للحياة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أخاف على الحب من المبالغين في التعبير عنه وتوكيده، حسياً، في كل لحظة. لا يحتاج الحب إلى اختبارات وامتحانات وإفادات بنجاحه. ليس الحب جملة معترضة، ولا هو مصادفة تصادم بين قدرين. هو القدر، متى وقع بدَّل حياتنا فصرنا ضمنه وصار البداية والختام. أما بين البداية والختام فنعيش الحب ولا نقدم امتحاناً مفتوحاً فيه لننال شهادة عليه من الآخرين.
طلاشل سلمان