سياحة بين المعبود والسلطان وطقوس العابدين
هتف السائح الأميركي بصحبه، وهم يتبعون الدليل وقد خلعوا أحذيتهم فتركوها خارج المعبد الهائل الفخامة والضخامة والملحق بالقصر الملكي في ظاهر بانكوك، عاصمة تايلند: بوذا أغنى من روتشيلد وروكفلر وبيل غيتس معاً!!
أما حين بلغوا، وهم حفاة، »قدس الأقداس« من ذلك المعبد الذي اجتمعت فيه ثروة طائلة من الذهب توزعت أنصاباً متناسقة ورموزاً وتجسيدات وهاجة لبعض وجوه العبادة وطقوسها، فقد صاحت سائحة أميركية عجوز وعميقة الإيمان: اصمتوا الآن! إننا في الكنيسة. لكأننا داخل كاتدرائية سانتي اوغستينوس في مونتفيديو! لا ينقص إلا تمثال المسيح على الصليب!
وقال سائح طلياني لزوجته، بشيء من الخشوع: أفترض أن الصلاة هنا مقبولة، فهذه التماثيل والمجسمات والشمعدانات المذهبّة تماثل تلك التي نقف أمامها أيام الآحاد لنتعبّد… لو كان ثمة مقاعد خشبية هنا، وكاهن يقف أمام هذه »العمارة« التي تشبه »المذبح«، لاعتبرت أنني داخل كاتدرائية سان مارك في فينيسيا.
أما في هونغ كونغ، وعند أطراف السوق التجاري، فقد تدافع حشد من السياح نحو معبد محددة أسعار الدخول إليه عند بوابته التي لا تُفتح إلا لحملة البطاقات الذين يُسمح لهم بالفرجة من عند الباب ويُمنعون من الدخول إلى حيث ما يمكن اعتباره »المذبح«… ولقد نشأ إشكال بسيط حين افترض بعض متبعي ديانة »الشيتو« أن المعبد لهم، فهمّوا بدخول حرمه، ومنعهم الحرس، فامتنعوا بعدما انتبهوا إلى اللباس الرمادي للكهنة فأدركوا أنهم في معبد يخص جماعة التيبت من أتباع الدالاي لاما، وليس مسموحاً لغيرهم بالوصول إلى »السرير« في داخله.
على امتداد أسبوعين طويلين، تجولنا كسواح يغمرنا شعور فياض بالدهشة والفضول والمتعة، والقليل من الرهبة، بين »آلهة« عديدة، أو تجسيدات متعددة لمعبود واحد، مختلف كل الاختلاف عن الذي عرفناه فآمنا به، عبر الرسالات السماوية الثلاث.
لكننا، في لحظة، اكتشفنا الكثير من المشترك بين »الله«، كما في إيماننا، وبين ذلك الحشد من التجسيدات »للإله« في تلك البلاد التي يتوزع أهلها بين عبادات ترتكز على فلسفات وأفكار ومعتقدات راسخة، استولدت عبر تاريخها الطويل الكثير من الطقوس وأنماط العبادة، أو هي استعارت (أو أعارت غيرها) بعض الطقوس من »ديانات« أو »عبادات« أخرى عبر نوع من التبادل الثقافي.
يبدأ التشابه في دُور العبادة، وإن اختلفت في مستوى الفخامة أو في ضخامة المبنى ومدى اتساعه وموقع المؤمنين منه وفيه، وهل عليهم أن يمارسوا الطقوس داخله أم يكفي الطواف به ومن حوله لإيصال الدعاء وتوجيه الطلبات والتشفع به لتحقيق الأمنيات؟!
كيف ينظم مئات الملايين من البشر، في معظم أنحاء القارة العظمى بسكانها، آسيا، علاقتهم بالمعبود، ومن ثم حوارهم معه، وأين موقعه من حياتهم اليومية، وإلى أي حد يتدخل فيها أم أنهم هم الذين يتوجهون إليه بطلب التدخل؟!
ومن دون الدخول في طبيعة تلك »الآلهة« وتجسيداتها المختلفة، ومن ثم في طبيعة الإيمان، فإن مقارنة محددة قد فرضت نفسها عبر المشاهدات طارحة التساؤل المشروع عن العلاقة (سياسياً وثقافياً واجتماعياً) بين الأباطرة وآلهة الشرق القديم (الصين، الهند، وما أحاط بهما من بلاد، انتهاء باليابان والفيليبين الخ).
البداية في التشابه الذي يكاد يصل إلى حد التطابق في مباني القصور الأمبراطورية أو الملكية وبين معابد الآلهة… فذلك التشابه، في الفخامة والأبهة وضخامة المبنى ومتانة الأسوار من حوله، يقرب صورة الملك أو السلطان المطلق الحاكم سعيداً ولو في بيئة غارقة في بؤس العوز والموت المجاني، من صورة »المعبود« الذي لا تقدم المخيلة الشعبية وسيلة لتجسيده في أشكال بشرية متعددة؟!
في بعض الحالات يصعب عليك التفريق بين السلطان الملك الأمبراطور وبين »الإله« المعبود المتعددة أشكال تجسّده.
لا حدود واضحة اللهم إلا في الصلاحيات التي هي من اختصاص السلطان، فهو الذي يأمر فيُطاع، وهو القادر على أن يمنح وأن يمنع، وعلى أن يجازي أو يكافئ أو يعاقب، وهو المؤهل لأن يقرّر مصير الناس، فإن لم يستطع أن يحيي فإنه قادر على أن يميت!
لكأنهما صورتان متكاملتان، أو وجهان لصورة واحدة.
وباعتبار أن »المعبود« هناك »بشري«، في الأصل، له تجسيداته الكثيرة، فمن الواضح أنه قد اختار طوعاً أن يبتعد عن الحكم ليرتفع في وجدان الناس فوق الحاكم، مكتسباً من القداسة ما ليس لذلك الذي يأمر فيُطاع، ومرتفعاً بسمو المكانة إلى مرتبة الخلود (أقله في الوجدان) بينما الملك ميت، لا محالة، ذات يوم… حتى لو اعتبر أنه سيعود بعد الموت، فابتنى لنفسه ضريحاً في مثل فخامة القصر، وخبأ معه مقتنياته الثمينة، مثل الفراعنة المستعدين للعودة بكل عدة السلطان.
تستوقفك التناقضات الكثيرة، كما يذهلك التماثل على البُعد، بين طقوس العبادات المختلفة:
فالمعابد الأعظم بذخاً وإسرافاً، سواء بالذهب الذي يغلف أعمدتها أو مناراتها أو قبابها الكثيرة، أو بذلك المسكوب في المجسمات وفي »المذبح« أو »السرير« في مكمن السر، في الداخل، إنما تقوم في الغالب الأعم في بلدان هي الأفقر، يعاني أهلها من سوء التغذية ومن الأمراض السارية ويموتون في أقبية الظلم وتحت الأحجار الثقيلة للقصور الملكية، أو للمعابد الملحقة بها، أو للأسواق التي تحمي هذه وتلك!
ولقد وقفنا مطولاً نتأمل عشرات من الفنانين والعمال المهرة وهم يعملون في ترميم بعض المنمنمات والمقرنصات ورسوم الحيوانات المقدسة على الأعمدة، أو في سقوف بعض المباني الملحقة بالمعبد. كانت أصابعهم المدربة تعمل بغير توقف على قص ولصق قطع الزجاج الملون، أو الأحجار الكريمة، وبينها الماس والعقيق والجاد، فوق قواعدها من الرخام أو من الفخار المشوي، أو من الحجر الصلب.
وكانوا في استغراقهم في عملهم الفني هنا يشبهون أقرانهم الذين »تفرجنا« عليهم فلم يرفع أحدهم بصره إلينا، وظلوا جميعاً مستغرقين في إنجاز قطع المجوهرات الثمينة داخل الورش والفبارك الصغيرة القائمة عند مداخل الأسواق المركزية، والتي يفتنك إنتاجها بقدر ما يعجزك دخلك عن »التسوق« منه!
لكأنه مقدّر على أفقر الفقراء أن ينتجوا زينة أغنى الأغنياء، نساء بالأساس، وبعض الرجال!
يمضون الساعات الطوال يحفرون فوق صفحة الذهب، ويزاوجون بين الماس والزبرجد والزمرد والعقيق والياقوت، ثم يعودون إلى بيوتهم ليغسلوا عن وجوههم وعن أيديهم غبار الذهب الذي تعبوا في تصنيعه ثم انتهت علاقتهم به مع اكتمال تجهيزه للقادر على شرائه!
هل يعبد الفقراء الذهب؟!
أم أن الفقراء يرون التعويض عن بؤسهم في غنى »معبودهم« والفخامة المكلفة جداً في معابده، التي لا تطعمهم ولا توفر لهم الملجأ أو البيت الدافئ، وإن ظلت هي الملاذ وبيت الرجاء؟!
إن الذهب يذهب إلى اثنين: السلطان والإله المعبود.
أما الطرف الثالث الذي يفترض في نفسه استحقاق الذهب فإنه النساء!
هل »يعوّض« الفقراء عن حرمانهم، وعن فداحة ظلمهم على أيدي سلاطينهم، بإغداق كل هذه الثروات الخرافية من ذهب وأحجار كريمة على إلههم المعبود؟!
أم أن سلطانهم الذي يقرن نفسه بمعبودهم ويتقدم عليه بصلاحياته، »يحفظ« الذهب الذي لا يستطيع أخذه لنفسه في المعابد التي يظل »المؤمنون« خارجها، أو يدخلونها خاشعين للصلاة، أحياناً، بينما هي ملحقة بقصوره، وكأنها بعض منها أو »ملحقات« لها؟!
ولماذا هذا الربط بين المعبود، أو الآلهة عموماً، وحجم المعبد، ومدى الفخامة والضخامة في مبناه؟
هل هو تعبير عن عمق الإحساس بعظمة »المعبود«، أم عن عظيم الاحتياج إليه، وضرورة تكبير مبناه ليتسع ليس فقط لصلواتهم بل أيضا لأمانيهم وطلباتهم الكثيرة، وربما لأحقادهم التي تبلور نفسها دعوات انتقامية من »خصومهم« أو »ظلاّمهم«، والله أعلم؟!
في بلاد لم تعرف الإسلام إلا قليلاً، بوسعك أن ترى معابد تماثل الجامع الذي تحوّل إلى مسجد، في شكل بنائها الذي يتضمن أحياناً ما يشبه المئذنة.
وفي بلاد لم تعرف المسيحية إلا عبر الحملات الاستعمارية في القرنين الماضيين، يمكنك أن ترى معابد تماثل في تشكيلها الكنائس والكاتدرائيات بأبراجها (ولو بلا أجراس) ثم بما يشابه »المذابح« في داخلها.
على أن التشابه أو التماثل بل لعله التكامل، يتبدى في أجلى صوره في أية مقارنة بين القصر الملكي الامبراطوري السلطاني وبين المعبد.
إن الملك ظل الإله على الأرض، بل هو المفوض منه والنائب عنه والقائم مقامه، والقادر على »توظيفه« لخدمته، حتى لو لم يعلن انه إنما يحكم باسمه وبإرادته وتنفيذا لأمره الذي لا بد من أن يطاع.
الرعية تخضع للمعبود.
والمعبود في خدمة السلطان، الذي غالبا ما يدعي انه إنما يحقق إرادة المعبود، ويكمل ناموسه، ويجسّد كلمته.
احرقوا البخور، تمجيداً للمعبود ولمن يحكم نيابة عن المعبود، وباسمه.
تختلف الأديان لكن السلطان يظل قادرا على توظيف الكهنة ورجال الدين عموماً في »استدراج« المعبود لكي يحفظه ويصونه ويحميه ويحقق له أمانيه ويقهر له رعيته، فإن هي عصت كان سهلاً اتهامها بالكفر وتوقيع العقاب عليها!
الملك الشمس. كل الملوك شموس. كل السلاطين آلهة. كل الأباطرة في منزلة المعبود، بل هي أرفع منه شأناً، وأعظم سلطة، وطاعتها واجبة، فإن هي قصّرت عاقبها السلطان بأقسى مما يعاقَب به الكافر أو المشرك أو المرتد.
الإله مرجَأ عقابه. أما السلطان فلا يمهل ولا يهمل.. ونادراً ما يغفر أو يسامح أو يقبل توبة »عبيده« الخطأة.
* * *
روى الصديق الغامق السمرة والذي كان يعمل في أمانة سر بعض السلاطين العرب، فقال: أذَّن المؤذِّن لصلاة الظهر، فانتبهت، ففتحت سجادتي وباشرت الصلاة. فجأة رن الهاتف الخصوصي الأحمر. كان السلطان يطلبني. وترددت قليلاً، فأنا بين يدي الله أؤدي فرضاً من فروض الدين طلباً لمرضاته ورحمته. فكرت للحظة، وكان الرنين مستمراً… ثم حسمت أمري فقطعت صلاتي واندفعت نحو الهاتف: لن يعاقبني الله إن أنا أرجأت صلاتي لبعض الوقت، لكن السلطان لن يرحمني…
رفعت السماعة بيدي المعروقة وهتفت: حاضر يا سيدي، لبّيك يا مولاي، عبدك رهن إشارتك!
انتبهت بعد لحظات انني إنما استخدمت تسميات هي من حق ذي الجلالة وحده… ثم هوّنت الأمر على نفسي قائلاً: هو في السماء، بعيد.. وهو غفور رحيم. أما هذا الذي له الأرض ومَن عليها فسيفه قريب إلى عنقي، وهو لا يغفر ولا يرحم ولا يقبل توبة التائبين!
السلطان أولاً… ثم يجيء دور المعبود.
والعبد والمعبود في خدمة السلطان.
لقد اتخذ السلطان موقعه خلف المعبود، وربما فوقه.. فكلما اتجهت إلى معبودك وقعت في شرك السلطان، أو أنك تتوسل المعبود طريقاً إلى السلطان لتأمن فتنام!
تحية كاريوكا
كلما غيّب الموت واحداً من فنانينا الكبار داهمنا الهرم وتعاظم الإحساس بفراغ المسرح، ونقص الفرح في يومياتنا، وطمس السواد بعضاً من ذكرياتنا الحميمة.
لم تكن تحية كاريوكا مجرد راقصة مبدعة، أو مجرد ممثلة قديرة.
كانت من تلك القلة من الفنانين الذين يمكن اعتبارهم من الدعاة.. خصوصاً أنها كانت من الشجاعة بحيث دافعت عن وجهة نظرها السياسية، ودفعت ثمن موقفها من حريتها، ولكنها لم تزيّف نفسها إرضاء للسلطة.
الموقف يضفي بعض صفات الكِبَر ويفرض الاحترام لصاحبه، حتى لو كان راقصة.
كذلك الإبداع الفني يحوّل ما كان مبتذلاً أو موضع اتهام بالرخص إلى مصدر لاحترام مبدعه والمجلي فيه.
والت ديزني
لم ننتبه إلى أن شركة والت ديزني تخلط السياسة بالفن، وأنها تروِّج لكثير من الأفكار السامة بعنصريتها »البيضاء«، إلا عندما وجدنا إسرائيل تحتل قلبها وتطل منه على العالم بشعارها الجديد: »القدس عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل«!
كالعادة، وصلنا متأخرين، وبمعلومات ناقصة، ومنقسمين على أنفسنا بحيث أننا أضعنا القدس قبل الدخول إلى المعرض بزمن طويل.
في هكذا لحظات نكتشف أن العروبة ليست هوية جامعة كما نفترض، وأنها ليست من القوة بحيث تصمد للرغبة في الربح المادي.
مَن لا قضية له لا هوية له، ولا دين.
كيف جمع اليهودي بين القضية والدين والهوية والمال… كل المال بما في ذلك المال العربي؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
علّمني حبيبي أن حبنا يموت إذا ما حاصرناه داخل قفص أنانيتنا. الحب كالبلبل لا ينسل إذا كان حبيس القفص. الحب كالنور، يستمد أهميته من الناس الذين لولاه لظلوا محرومين من نعمة النظر والتمتع بالدنيا. هل أعظم من أن يشع نورك فيُدخلك عيون الناس وقلوبهم؟
طلال سلمان