»المقنّعون« يستعادون .. وفلسطين تبقى فينا!
قبل خمس وعشرين سنة تقريبا أطلق محمود درويش قصيدته الصرخة: »هل أنت مصر؟«
كان جندي مصري قد وصل عائداً من جبهة »حرب العبور«، بعد تيه طويل في صحراء سيناء امتد نحواً من عام كامل، وقد وقف أمام مشهد خيمة الكيلو 101 والمفاوضات مع العدو الإسرائيلي، الذي كان قد قفز إلى »أرض مصر« على الضفة الغربية لقناة السويس، فأنكر ما يراه، وافتقد رفاقه »أبطال العبور« ورايات النصر الخفاقة في الأيام الأولى للقتال المجيد، وأحلام التحرير، فظن أنه ضل الطريق حتى لا يصدق أن هدف التحرير قد ضاع منه، وأن وطنه يُجر إلى اتفاق الإذعان جراً، بسبب من تعجل قيادته السياسية أو نقص كفاءتها.
»هل أنت مصر«؟!
المشهد في فلسطين يبدو الآن معكوسا، مع توالي عودة »التائبين« إلى أحضان »السلطة« التي طالما أدانوها بتهم أبسطها التفريط بالأرض وحقوق الشعب وأخطرها تدمير الثورة ومن ثم القضية، والعمل كمرتزقة في خدمة الاحتلال الإسرائيلي.
من حق فلسطين أن تستجوب هؤلاء الذين ألقوا السلاح، وابتلعوا شعاراتهم البراقة، وغيّروا جلودهم، وأن تسائلهم: هل أنتم أنتم؟! هل أنتم الذين كانوا ينادون بالكفاح المسلح ولا يرتضون أن تنقص المساحة المنوي تحريرها عن شعارهم المدوي: »من النهر إلى البحر«!
من حق فلسطين أن تسأل هؤلاء الذين يستأذنون الاحتلال في العودة إلى »أفيائه«: ألستم أنتم من دفع بالمئات بل الألوف من الشباب الى ساحة المواجهة، أي الى الاستشهاد، لتحرير الأرض؟! كيف تتركونهم وتجيئون مستغفرين عما تقدم من نضالكم ومن تضحيات »الفدائيين«؟!
من حق فلسطين أن تسأل الذي اندفع، بغير دعوة، إلى مصافحة الرئيس الإسرائيلي، على هامش الجنازة الملكية في عمان: بأي حق تزعم أنك تعود إليّ وأنت عائد »إليهم«، وبإذنهم، ولخدمتهم!!
لا تؤخذ فلسطين بالكلام الساقط عن »الشروط الأمنية والسياسية« التي يزعم »مصافح وايزمن« أنه يعلق عودته عليها.. فحين تتقدم »الضحية« من جلادها طالبة الصفح لا تسقط عنه فقط صورته الأصلية، كسفاح وغاصب حق ومستعمر استيطاني، بل تنقلب إلى »عميل« بل إلى أتفه من ذلك، إذ تتبرع بغسل الدماء عن أيدي الجاني، وتظهِّر له صورة جديدة فإذا هو متسامح كريم، وإذا هو »ديموقراطي«، وإذا هو ملتزم »شريف« بحقوق الإنسان!!
لا تكفي مكايدة العرب تبريراً،
لا يكفي ادعاء الخذلان أو التخلي العربي عذراً،
ويجب أن تُسقط هذه الأكاذيب المبررة للانحراف: سابقنا العرب إلى الصلح فسبقناهم! أو: دفعنا العرب دفعاً إلى التسليم لكي يخلصوا منا ومن العبء الثقيل لقضيتنا التي كشفت عجزهم!
حرام أن تخوَّن الأمة لتبرير انهيار فرد أو أفراد،
حرام أن يعدم الشهداء، مرة أخرى، من أجل تبرير الركض نحو رتبة شرطي (أو منظّر) في خدمة الاحتلال!
فليعد مَن يريد العودة، ولكن بغير أن يقلب بندقيته فيفرغ آخر رصاصاتها في صدور من كانوا رفاق سلاحه، وفي مَن كانوا شركاءه في الإيمان بقداسة القضية كما في الدم المراق على مذبحها، كما في الرغيف والبيت والبطانية والحلم الواحد!
لماذا تحاولون اغتيال فلسطين فينا، قبل اغتيالها وأنتم تذهبون مستسلمين لمحتليها الإسرائيليين؟!
لماذا تنحرون فينا إيماننا بعروبتنا التي رفعتكم رايات لنضالها، وأحلتكم في مرتبة الأولياء والقديسين وأصحاب الكرامات؟
لماذا تقتلوننا وأنتم تغادرون؟!
لماذا تنسفون علينا بيوتنا وقيمنا وأمانينا؟!
لماذا تذبحون أحلام أطفالنا؟!
لماذا تعهرون هويتنا وقضيتنا المباركة فلسطين؟!
نفهم أن تقولوا: لقد تعبنا، وآن لنا أن نرتاح!
نفهم أن تعتزلوا يأساً، إذا أعوزتكم الشجاعة للاعتراف بأنكم قد فشلتم (مع تبرير الفشل بأن العبء أثقل من أن تتحمّلهم ظهوركم).
نفهم أن تقولوا كما يقول ذلك الشيخ الطيب: أعود إلى فلسطين في تابوت لأدفن في أرضي، طالما قد عجزت أن أعود إليها تحت راية التحرير.
أما أن تذهبوا لكي تكونوا سلاحاً إضافياً في اليد الإسرائيلية علينا، فتلك خيانة مزدوجة، كائنة ما كانت محاولات التبرير!
لقد أنكر الأسير المصري مصر عندما رأى كبار قادة الحرب المجيدة التي اغتيلت دون النصر، يجبرون على توقيع صك الإذعان،
فكيف ترى ستقبلكم فلسطين وأنتم تعودون إليها طائعين لتشهروا هزيمتها، ولتقطعوا أوصالها فتفصلوها عن أمتها، ولتحرقوا هويتها العربية، ولتزكوا عدوها الإسرائيلي؟!!
كان »المقنّع« الذي واكب جيش الاحتلال، عندما اجتاحت إسرائيل لبنان، يداري وجهه بالقناع، خوفاً من أن يُعرف، وربما بدافع الخوف من أن يرى بعينيه خيانته… كان يخاف ويخجل بما يفعل، فيخفي وجهه وراء قناع!
أما أنتم، أيها »المستعادون« لكي يقضى على أمل العودة، فتعودون بوجوهكم ذاتها، بغير أقنعة، بعدما سقط الخوف وسقط الخجل!
أم أنكم كنتم طوال الوقت مقنّعين علينا، مكشوفين لهم؟!
لا وداع لكم، ولا رغبة في لقاء بعد هذا الافتراق.
وفلسطين في القلب كانت وتبقى اليوم وغداً وحتى يوم القيامة!
الإيمان بألفية بن مالك والكفر لنصر حامد أبو زيد!
روى نصر حامد أبو زيد أن بعض المتعنتين من زملائه، الأساتذة الجامعيين، قد قاطعوه عندما أثيرت في وجهه زوبعة الاتهامات المتجنية… وأنه قرّر أن يذهب إليهم ليستشهد بهم على صحة إيمانه، فهم يعرفونه عن قرب، ولطالما امتد بينهم النقاش داخل بحور الإيمان، وتجادلوا حول بعض الطقوس، وما كفَّر أحد منهم الآخرين ولا شكك أي منهم في صحة عقيدة الآخر.
قال أبو زيد: من بين هؤلاء زميل كنت أعتبره صديقاً. وقد وجدت بيته في أحد الأحياء الشعبية بعد بحث مضن. وحين فتح الباب ورآني صعقته الدهشة لكنه اضطر إلى دعوتي للدخول إلى غرفة الضيوف. وجلسنا نتحدث، وحين سألته عن عائلته، دخل لبرهة ثم عاد ومعه ابنه »أحمد« وعمره خمس سنوات، وقد ألبسه جلباباً أبيض وأحاط رأسه بطاقية بيضاء.
سلّم الطفل وجلس، فبادره أبوه: هل تحفظ القرآن الكريم يا أحمد؟
رد الطفل: أحفظه، إن شاء الله.
قال الأب: فاتلُ علينا سورة آل عمران، يا أحمد.
فتلاها الطفل، وأنا مشفق عليه، أتابعه بشغف ومتعة لجمال صوته ومتانة حافظته.
حين انتهى توجه إليه الأب سائلاً: وما تحفظ من الحديث يا أحمد؟
قال الطفل: أحفظ معظمه، إن شاء الله.
وأمر الأب طفله بأن يسمعنا مختارات من محفوظات الحديث الشريف، فانطلق الطفل يستذكر أحاديث عديدة رويت نقلاً عن الرسول في مناسبات مختلفة.
وقبل أن ينتهي من السرد، كان الأب يسأل طفله: وهل تحفظ ألفية بن مالك يا أحمد؟!
قال الطفل بأدب جم: أحفظها إن شاء الله، يا أبت..
قال الأب: فهل تسمعنا الألفية يا أحمد.
وبدأ »أحمد« يتلو القصيدة الطويلة التي تكاد تتضمن اللغة العربية بصرفها ونحوها وقواعدها جميعا، إلى أن تدخلت فأوقفته شاكراً.
صرف الأب ابنه الطفل وعاد إليّ فقلت:
هذا والله حرام… كيف تحمّل طفلك ذا السنوات الخمس هذا الحمل الثقيل كله؟! لماذا تقتل فيه طفولته؟! لماذا لا تترك له فرصة للتنفس، ليعيش عمره؟ ليلعب مع أقرانه ويلهو ويعبث كسائر الأطفال؟! وماذا استبقيت له لغده، في كهولته وشيخوخته؟!
ورد عليّ زميلي بعنف: ولماذا أتركه يضيّع بعض عمره خارج ما يرضي الله ورسوله والمؤمنين؟!
ولكنه طفل…
ينشأ على الإيمان وعلى الذكر وعلى أحاديث الرسول، فلا يصرف وقته عبثاً ولا تستغرقه وسائل اللهو التي تهز الإيمان.
وختم نصر حامد أبو زيد روايته قائلاً:
قمت منصرفاً وأنا أشعر بأنني لم أخسر صديقاً مفترضاً فحسب، بل أضفت شاهداً ضدي، سيشهد غداً على نقص إيماني الذي قد يأخذني إلى الكفر!
* * *
مَن هو ذلك المخوّل بأن يقرر إسلام المسلم (أو مسيحية المسيحي)؟
مَن هو ذلك المؤهل والمفوض وصاحب الحق الإلهي في إعطاء شهادات الإيمان للمؤمنين، وفي فرز »المرتدين« و»الكافرين« و»المشركين«، ما دامت العقيدة تتخطى الطقوس وتتجاوز الشكليات، لتسهم في تشكيل اليقين؟!
من هو ذلك الشرطي السري القادر على اقتحام وجدان أي إنسان، والتنصت على حواره الداخلي مع خالقه ومع ذاته؟! ومجادلاته مع شكوكه، ومناقشاته لما استخلص من موروثاته ومعتقداته المأخوذة عن أهله وبيئته، وكذا لما استوقفه في قراءاته وتجاربه ومشاهداته وما عرف وسمع وأخذ عن الآخرين؟!
مَن هو ذلك الرسولي الإيمان، الصافي العقيدة، الثابت اليقين أكثر من نصر حامد أبو زيد، مثلاً، بحيث يرى في نفسه الجدارة لأن يعطيه شهادة بإسلامه، ولأن يقره على إيمانه، وبأن يبيعه صك الغفران؟
لماذا يُراد ربط الفكر بالكفر، والحوار باهتزاز الإيمان؟!
أم يُراد لنا أن نكون ذلك الطفل المقهور »أحمد« المبتلى بألفية ابن مالك؟
القراءة في عتمة العناق!
تنبثقين من باطن الظن كنافورة للشهوة المتهافتة،
تتدلين من سقف الرغبة، فيمتد مداك سريراً من ورق الورد فوق أكتاف الحشد الذي يحاول قراءة اسمك فتضيع منه الحروف في وادي العيون.
أحب اتقانك في صنع المصادفة!
لكأنك آتية من أجل الذهاب، أو ذاهبة من أجل المجيء. لكأنك كنت على وشك الدخول، لكأنك كنتِ على وشك القول..
تلوّحين بشعرك فتنهمر الكلمات وقد انفكت عراها، وصار لكل قارئ أن يجتهد في فهم المعنى المرمم.
ليس أجمل من أن يسكن الموعد في عيني امرأة، فلا يجيء إلا في موكبها ثم لا يتبقى منه بعد انصرافها إلا ذلك الموعد المرجأ أبداً المتغلغل في شميم عطرها المتروك علامات على الطريق.
متى مصادفتنا التالية، يا امرأة يتكاثف حضورها عند الانصراف، وترمي العين وعداً بلقاء آخر، تطرزينه على باطن اليد حتى لا يقرأ إلا في عتمة العناق؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أحب أن أتأمل حبيبي وهو بين الناس، عن بُعد. أحب الناس في حبيبي. وكلما أقبلت عليه امرأة أحسست بشيء من الزهو: كلهم يحبونه وهو يحبني أنا. وأتفلسف فأرى أنني هم. ولكن حين يعود إليّ أريده وحده، ويريدني من دونهم… ولكننا كما أي حبيبين الناس جميعاً!
طلال سلمان