إدوار سعيد يعود إلى »المكان« ونحن نغادره!
نكاد نشكر الموت الذي عرّفنا إلى ادوار سعيد…
فليس سراً أننا تعرفنا إلى ادوار سعيد بعدما غدا »خارج المكان« أكثر مما عرّفتنا به كأمة حياته الغنية بالإنتاج المتميز والذي أحدث نوعاً من الزلزلة الثقافية في الأوساط الأكاديمية بل والفكرية الأميركية أساسا، والغربية عموماً.
لقد أعادت فلسطين »بعض« إدوار سعيد إلى الجمهور العربي، فعرفه عبر الموقف السياسي أكثر مما عرفه عبر إبداعاته الفكرية التي خلخلت الكثير مما كان يُعتبر من ثوابت النظرة الغربية إلى العرب عموماً، وإلى قضية فلسطين والمشروع الإسرائيلي خصوصاً.
… وحين عاد إلينا إدوار سعيد، بعد غربة طويلة، استقبلناه بينما نحن نكاد نتوه في غياهب تغربنا عن أنفسنا، عن أرضنا، عن هويتنا، ملتحقين بالمهيمن الكوني الأميركي الذي قاتله ادوار سعيد في عقله وفي أفكاره الخاطئة، واستطراداً في مشروعه السياسي الذي يستهدفنا مباشرة في حقوقنا في أرضنا وفي تقرير مصيرنا وفي بناء مجتمعاتنا بما يتناسب مع كرامتنا البشرية ومع حقنا في التقدم والاختيار الديموقراطي لأنظمتنا السياسية بغير قسر أو قهر أو إلغاء لهويتنا الوطنية وموروثنا الثقافي.
لقد اهتدى إدوار سعيد إلى هويته الأصلية عبر التصادم مع المرتكزات الفكرية لمجتمع غربته.
وهو اهتدى إليها بنور عقله قبل قلبه، وبالفكر قبل العاطفة، وبقوة الانتماء إلى أرض بالذات مهدَّدة بالضياع اغتصاباً، وإلى شعب بالذات مهدَّد بالإبادة، مع تبريرات للغاصب المحتل يتداخل فيها الديني مع الفكري، والسياسي مع العنصري، بما يعيد إنتاج التراث الاستعماري جميعاً في صيغة جديدة وأنيقة تحت عنوان »رفع الاضطهاد عن المضطهَد في الغرب بتمكينه من إلغاء شعب كامل في الشرق«، بالقتل والتشريد وحرمانه من أرضه ومن حقوق الإنسان كافة.
اهتدى إدوار سعيد فعاد إلينا فإذا نحن تائهون…
وبين المفارقات أنه رجع إلينا ليكون ذاته فإذا نحن نخرج من ذواتنا قاصدين الالتحاق بذلك العالم الذي قاتل فيه إدوار سعيد نزعة الاستعلاء واحتقار الآخرين وامتهان كرامتهم باعتبارهم من صنف أدنى، يريدون إعادة البشرية إلى الوراء بالإرهاب، يرفضون الديموقراطية إلا إذا فُرضت بقوة الاحتلال ولا يستحقون أن يتمتعوا بخيرات أرضهم لأنها من حقوق المجتمعات المتقدمة القادرة على توظيف الثروة في صنع التقدم بدلاً من هدرها على القصور والسلاح والمباذل الشخصية.
لم يكتب إدوار سعيد لنفسه فقط، فهنالك دائماً الآخر، كما قال، وهذا الآخر سيحول التفسير إلى ممارسة اجتماعية مرتبطة بنتائج وجمهور.
ولم يكتب إدوار سعيد نقداً للنقد، بل هو كتب صادقاً مع مقولته ان على النقد ان يكون ضد أي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والعسف، ويجب ان يكون هدفه الاجتماعي »إنتاج المعرفة التي تهدف إلى الحرية الإنسانية«.
لم يكن إدوار سعيد في أي لحظة »خارج المكان«، بل إنه خلق مكاناً للإنسان، بل عالماً فكرياً رحباً…
وكشف إدوار سعيد ان الاستشراق لم يكن يوماً عن الشرق، بل كان حيلة لإنتاجه للغرب، وليبصِّر الغرب كيف يسيطر على الشرق ويستتبعه.
لقد رحل إدوار سعيد عن الامبراطورية الأميركية التي طالما انتقدها والتي تحتلنا الآن جيوش هيمنتها لكي تعلمنا الديموقراطية بالصواريخ والدبابات وطائرات القتل، على الطريقة الإسرائيلية.
أذكر أنني سألت إدوار سعيد في آخر لقاء، في مؤتمر المنظمة العربية المناهضة للتمييز العنصري، في واشنطن، قبل ثلاثين شهراً: متى ستأتي إلينا في بيروت؟! ولقد رد كمن استفُز: يقدر لي الأطباء ان أعيش ستة أشهر، ولسوف أحاضر في بيروت، ولكن الأهم أنني سأذهب إلى الجنوب الذي تحرر الآن، وسأتطلع من هناك إلى فلسطين وهي في حجرة نومها. لقد أبلغني بعض الأصدقاء أنني من الجنوب المحرر أستطيع ان أتمتع بمشهد الجليل كله حتى البحر. وسأذهب لأتعرف إلى ما لم يُقدَّر لي ان أمشي فيه من الأرض الفلسطينية. إنني قوي، فاطمئنوا.
… ولقد جاء فعلاً، وذهب في جولة وفّرت الخاتمة المهيبة عبر صورته وهو يرتفع بجسده وفي يده ذلك الحجر المقدس لكي يرمي به جندي الاحتلال في دشمته المصفّحة.
لقد طار بجسده ومد عينيه مع حلمه إلى كل أرض فلسطين التي طالما روى روايتها المثخنة بعذاب الجراح للعالم الذي كان يريد أن ينساها، والذي لا يريد ان يرى فيها إلا إسرائيل.
اليوم، بدأت رحلة إدوار سعيد الحقيقية معنا.
لذلك، فإن إدوار سعيد سوف يسكن غدنا، وسيلاقينا كلما تقدمنا على طريق فلسطين… طريق استعادة إنسانية هذا الإنسان العربي المضطهَد، وحقوقه.
»كلمة في ندوة نظمتها »جمعية الشجرة« في مكتبة الأسد بدمشق بعنوان: فلسطين في فكر ادوار سعيد«.
زافين يعيد فتح سيرة الحرب بالصورة المقابلة!
الانطباع الاول عن زافين قيومجيان خادع: يوحي اليك بأنه »بريء الى حد السذاجة«، وبأنه يمشي على »سطح« الاخبار ويتجنب التوغل في دلالاتها الفعلية، وأخيرا بأنه »منصرف عن السياسة« لا تعنيه بقليل او بكثير.
أما حين تعرف زافين عن قرب فلسوف تكتشف فيه مواهب عدة،
وأفترض ان العديد ممن أطلوا معه عبر برنامجه التلفزيوني الناجح »سيرة وانفتحت« قد اكتشفوا متأخرين انه قد استدرجهم »ببراءته« الى حيث لم يكونوا يقدرون، وانه قد استنطقهم فجعلهم يقولون ما كانوا يفترضون انه لا يقال ولا يجوز ان يصدر عنهم!
ببراءته الساذجة الى حد الجرح، وبدأب النملة، وبالطرافة التي اشتهر بها، أعد زافين قيومجيان مع عين مرهفة الحساسية بالثقافة اسمها حياة قرانوح، مجلدا شهادة ضد الحرب الاهلية أعطاه عنوانا »زافينياً«: »لبنان… فلبنان«!
الكتاب لا يؤرخ للحرب الحروب، بل هو »بحث عن شهود الحرب وأبطالها الذين عاشوا فرح اللقاء وألم الموت في سنوات الجنون«!
هل يخطر ببال أحد غير زافين ان يبحث عن مصير »بوسطة عين الرمانة« الشهيرة التي تُعتبر عنوانا للرصاصة الاولى التي فجرت الحرب، والى من انتهت ملكيتها، وصاحبها الحالي الذي »ينتظر ثروة من بيع ما تبقى منها«؟!
الصور ناطقة بالمقارنة: هكذا كانوا، او هنا كانوا، وهكذا وهنا صاروا، والمسافة حكاية تختلط فيها الاوهام الدموية بالفواجع السياسية، وتقتتل فيها الدول عبر المقاتلين السذج والقيادات المتورطة والسلاح الذي ينتقل من خدمة هدف الى خدمة نقيضه بلا مراجعة او محاسبة.
10 تشرين الاول 1975، المجزرة الاولى في الكرنتينا: /270/ قتيلا وزكريا عمشة احد قلائل الناجين يجلس اليوم في مسرح المجزرة الذي بات الآن »مرقصا« شهيرا، وقد قرر ان ينسى صورته الاولى في المكان نفسه قبل 26 سنة وأمه ترجو المسلحين ان يسمحوا لهما… بمغادرة ساحة الموت.
السبت الاسود: الرجال والنساء في صفوف منتظمة، الوجوه الى الجدار والأيدي فوق الرؤوس، في انتظار القرار بالاعدام… ثم صورة الجدار ذاته وعليه اعلان لمتذوقي كماليات الجمال في حياة معاصرة.
تابوت متروك لعاصفة الموت، وقد هرب المشيعون: انه جثمان المدير العام لوزارة المالية المرحوم خليل سالم. وفي التاريخ ذاته ثمة من يتذكر فيجيء مع الفجر ليضع إكليلا من الزهر، استذكارا وتحية لمن رحل بغير وداع.
في المصرف المركزي: الحاكم الجديد يقف امام »الكرسي« الذي لم يغادره ابدا سلفه »المحافظ« على عملة البلاد، ادمون نعيم، والذي حول المكتب الى »متراس« لا يخترقه رصاص اللصوص الصغار، لكن اللصوص الكبار »سرقوا« ثروة البلاد والعباد بوسائل لا تنفع في صدها أكياس الرمل وشجاعة المؤتمَنين على سلامة النقد.
نفق نهر الكلب المسدود بالانفصال؛ برج الساعة في مبنى الكولدج هول في الجامعة الاميركية وقد تهاوى بعد نسفه؛ القناصون؛ المتطوع الذي كان يبحث عن جرحى بين الاموات، وبات ناشطا بيئيا؛ المقاتلة التي صارت ناشطة اجتماعية…
ثم الاجتياح الاسرائيلي بمجازره المتعددة من صبرا وشاتيلا الى حرب الجبل، وبعدها حروب الداخل: حرب العلم، حرب المخيمات، حرب التحرير، وحرب الإلغاء… إلخ.
ليس تأريخاً للحرب، وليس شهادة عليها وعلى ابطالها وضحاياها، بل هو رؤية مختلفة عبر الزمان والتحولات التي تصيب الناس.
لكن روح الطرافة غلبت في الاختيار، لأن زافين الذي يرى من زاوية مختلفة قد وجد الشريك المناسب في حياة قرانوح… وقد ساعدهما في الإعداد كريم فخري ورامي فياض، فكانت شهادة جديدة تستحق ان تهدى الى »لوري«.
إنها محاولة لاغلاق »السيرة« التي انفتحت بالرصاص، والتي لم تقفلها السياسة تماما حتى اليوم.
أذكى استنتاج في هذا »السجل« أن الحرب في لبنان قد انتهت مع الاجتياح الإسرائيلي بالنار في تموز 1993 والذي تسبب في تهجير نصف مليون لبناني، مما فتح العيون على الحقيقة وفتح القلوب بين هؤلاء الذين اكتشفوا لمرة انهم مواطنون في بلد واحد ومهددون بالمصير نفسه.
تهويمات.. في سفر العتاب
انشق الليل قبل انتصافه بثلاث كؤوس، وهبطت الجنيات بمظلات الذكريات العتيقة. لم يكن أحد مستعدا للحرب، وأما العتاب فسلاح صدئ لا يليق إلا بالمخذولين.
لا اعتذار عما لم يقع، فالحكاية كتبت نهايتها من قبل ان تبدأ.
والشوق القادم من البعيد بيدين مرتعشتين وشفتين تتلعثمان بالكلمات الخائفة من اكتمال المعنى، يثير من الفضول ما يعوض عن الغيرة التي لا مساحة لها في مدى الصوت الذي يغني للحب.
لا بد من شيء من صمت التأمل لكي ينتظم القول في سياق الاستدراج بالإيحاء، قبل الاندفاع المتردد الى الاعتراف المتأخر بافتقاد الصحبة.
كان لا بد من الوقت لكي تتهاوى الأستار، فيطل الفرح الهادئ كالنعاس، وتتسع الابتسامة لتضيء الوجه الذي لبسته الرصانة قناعا فوق قناع حتى كاد ينسى ملامحه الاصلية.
لكن العيون ثرثارة،
والثرثرة طريق الى باب السر. لمسة واحدة وينكشف المخبوء، فتداري العيونُ العيونَ لمزيد من الاستمتاع بالخلسة.
فرغت الكؤوس من أكوام الكلام، إلا تلك التي أعياها النطق.
سقطت غربة الشوق الآتي من البعيد، فعاد المعنى الى كلمات الأغنية، وهربت عيون الاعتراف من عيون التلهف الى الصفح. لا بد من سفر آخر فوق مساحة الآه. والشوق خلف السفر، وبعده تنهمر الآهات مطرا.
الليل قصير، لا يتسع للشوق والآه والكلمة الحبيسة وثرثرة العيون والكؤوس الطافحة بما لا يقال.
في الخارج كانت سماء البرد صافية، وكانت امواج البحر تترنح ثملة، وكان البدر قد اكتمل بتاج من اللجين اصطنعته آهات اولئك الذين عزّ عليهم الاكتمال.
وتكأكأت الخيبة على عكاز الشوق حتى بلغت منتصف السلّم الى الأمنية، لكنها افتقدت درجات الصعود الى الذروة، فتراجعت تبحث عن سرير الفراغ لتنظم قصيدة لن يقرأها القلم الذي كتبها.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
تقرأ الحب في عيني حبيبك. قد يثرثر اللسان بكلمات العشاق، وقد ترتعش اليد بالرغبة، وقد يفور الصدر بالشهوة… لكن العين وحدها هي التي تقول الحب بلغتها التي لا مجال للخطأ أو سوء التأويل فيها.
أنا القارئ الأعظم في الكون… فعينا حبيبي دواوين شعر تترقرق فيها حكايات العاشقين وقد اجتمعت فينا.
حبيبي يكتبني بعينيه وأنا أقرأه بقلبي.
هل أخرجك حبيبك من أسار أميتك؟!