في باب الترحم على الاستعمار القديم وديموقراطيته النبيلة!
دار العرب بالتاريخ دورة كاملة الى الخلف: ها هم يعودون صاغرين، طائعين الى العيش تحت الاحتلال! إن معظم أقطارهم تخضع الآن لاحتلال أجنبي مباشر، سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي، فضلا عن احتلال اسرائيل كامل فلسطين وبعض البر السوري وبعض البر اللبناني ومساحة واسعة من الارادة العربية.
والاستعمار الجديد »أغبى« و»أشرس«، و»أغنى« »وأعتى« من الاستعمار القديم.
بريطانيا، مثلا، وفرنسا، وغيرهما من قوى الاستعمار القديم (ايطاليا) كانت تخادع الشعوب المقهورة وحكامها من »العملاء« فتنافقهم وتحاول التعرف اليهم، وتراعي أحيانا مشاعر عامتهم ومقامات »زعاماتهم« و»مرجعياتهم الدينية« حتى لو كانوا من صنعها فتجاملهم وتتجنب استفزازهم الا نادرا.
أما الاستعمار الجديد فيباشر اجتياحه بتحطيم معنوياتهم وإذلالهم في معتقداتهم ومصادرة ثرواتهم، ولا يحفظ للحكام أصدقائه الحد الأدنى من »الكرامة« التي يحتاجون إليها لإخضاع شعوبهم.
إنه يهين الأمة كلها في مقدساتها ومعتقداتها، بينما هو يأخذ عليها غياب المؤسسات.
إنه يطالب العرب بإدانة انتمائهم الى العروبة، والمسلمين بالتبرؤ من الإسلام، فبذلك يتبرأون من الارهاب وينتمون الى عالم الديموقراطية تحرسهم قواعده العسكرية المنتشرة على امتداد أرضهم وفوق مياه بحورهم أو تلك التي تحتل سماواتهم السبع.
وببساطة فإن الولايات المتحدة الأميركية التي لا تعترف بالقومية رابطة وطنية، تريد التعامل مع سكان هذه المنطقة من العالم بوصفهم »مواد أولية« لم يكتمل نموها لتصبح »شعوبا« فكيف بأن تكون أمة واحدة؟!
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن العراق في نظرها ليس بلدا عربيا، وليس وطنا لشعبه، بل هو خليط متنافر من البشر جمعتهم المصادفات فوق أرض واحدة: والحل الديموقراطي فيه للخلاص من حاكمه الدكتاتور أن يرجع ناسه الى أصولهم الأولى فيكونوا عربا وأكرادا وتركمانا وكلدانا وسريانا وحثيين وبابليين، ويكونوا سنة وشيعة واسماعيليين وصابئة ويزيديين وكاثوليكا وأرثوذكسا (وربما بواقي من اليهود)… وبهذا فإن العراق يمكن أن يكون عشر دول أو خمس عشرة دولة!
على »مقياس بوش« هذا يمكن أن يكون لبنان حوالى عشرين دولة، أما السودان فيمكن أن تبلغ الدول فيه الخمسين عددا.
(إسرائيل خارج البحث الاميركي لأن الأميركيين يرونها نسخة مصغرة من دولتهم، وإلا لكانت بذاتها أمماً متحدة من حوالى خمسين جنسية وعرقاً وديناً ومذهباً…).
وعلى مقياس بوش فلا بد أن يتوزع العرب على أديانهم وطوائفهم وعشائرهم وقبائلهم، لكي ينالوا منها شهادة بالديموقراطية وباحترام حقوق الإنسان، ولكي تبرئهم بالتالي من تهمة الارهاب.
الطريف أن الاستعمار الجديد يهاجم الحكام والمحكومين، من العرب (والمسلمين) في آن واحد، فالنظام السعودي، مثلا، إرهابي، وكذا رعاياه… والنظام العراقي طاغية وشعبه يستأهل العقاب لنقص في إيمانه بالديموقراطية، و»السلطة الفلسطينية« فاسدة، والفلسطينيون إرهابيون لأنهم يعتدون على اسرائيل، وحتى انتخاباتهم الديموقراطية مرفوضة ومدانة لأنها تشجع وتنمي روح المقاومة ضد إسرائيل.
صارت مؤامرات وتواطؤات المستعمرين القدامى التي أنشأت الكيانات العربية الحديثة (سايكس بيكو في المشرق، مثلا) رحمة، قياسا الى ما ينتويه هذا الاستعمار الجديد، الذي يعمل لإلغاء الشعوب نهائيا وليس الدول فحسب لكي يوفر الأمان لإسرائيل والثروات لدولته من هذه البلاد التي لا أهل لها.
على أن للاستعمار ميزة عظيمة لا بد من الإقرار له بها: إنه يهين عملاءه من الحكام ويشهّر بهم ويؤكد رأي مواطنيهم فيهم مما يجعلهم »إرهابيين« حقيقة!
مع استعمار بهذا الذكاء: أبشر بطول سلامة يا مربع!
القائد الحزب الوطن في رجل.. يموت!
منذ السبعينيات وأنا أتابع قلم الزميل جوزف أبو خليل، باهتمام.
وبعيدا عن اختلاف الرأي، وهو أكيد ومستمر، فلقد كنت معجبا »بعناده« الذي لا تهزه التحولات والأحداث الجسام، كما بلغته، المتينة البناء حتى في قسوتها.
وحين التقينا بعد دهور من استحالة التلاقي، ولو في الإطار المهني، تبدى لي كأن النقاش معه ينتهي عند نقطة البداية، إذ تتعذر محاورة »إيمانه« الثابت وتسليمه المطلق بالزعامة التاريخية المفردة لمؤسس حزب الكتائب الراحل بيار الجميل.
فجوزف أبو خليل ليس كتائبيا حرفيا في التزامه الحزبي، بل هو »بيار جميلي«، عاش لبيار الجميل أكثر مما عاش لنفسه، فلم يكتب تقريبا، الا له وعنه وفيه. أما الحزب فهو إطار صورة »الزعيم« الذي كاد أبو خليل يتعبد له.
ولا مرة داخل جوزف أبو خليل الشك في سلامة رأي أو دقة استنتاج أو صواب قرار اتخذه بيار الجميل ثم اعتمد نهجا لهذا الحزب العريق الذي أطل على الحياة السياسية خلال حقبة الانتداب الفرنسي والانقسام حول »دولة لبنان الكبير« ومن ثم »الجمهورية الأولى«، أواخر الثلاثينيات، ودخل السلطة كشريك مضارب ضعيف بتنظيمه قوي بكونه البديل من غيره، أواخر الخمسينيات، ثم صار طرفا محوريا فيها أواخر الستينيات، مع استيلاد هزيمة حزيران »الحلف الثلاثي« في لبنان، الى أن دفعته الحرب الأهلية مع انفجارها في اواسط السبعينيات الى قمة السلطة مع الاجتياح الاسرائيلي الذي بدل في خريطة التوازنات في المنطقة صيف 1982.
ومن فوق القمة التي رفعته إليها دبابة اسرائيلية، بدأ الانحدار السريع حتى إذا رحل القائد المؤسس انتهى الحزب أحزاباً، خصوصاً انه خرج وكان لا بد أن يخرج من دائرة »التركة العائلية« لبيار الجميل.
ولقد كتب جوزف أبو خليل كثيراً، ولكن في موضوع واحد لم يتبدل قط ولم يتغير: لبنان كما رآه وأراده أو عمل له بيار الجميل… وكثيراً ما ساوى بين البلد والرجل حتى كاد يصيّرهما واحداً.
وقبل أيام أصدر جوزف أبو خليل كتاباً جديداً عن موضوعه الثابت والدائم والأثير: بيار الجميل… وهو سيرة سياسية، معادة لقراءة جديدة للوقائع القديمة لدور الرجل (بيار الجميل) في الوطن (لبنان).
الكتاب مطالعة جديدة، أو هو طبعة منقحة ومزيدة للمطالعة المفتوحة التي يحاول أن يثبت بها جوزف أبو خليل، مرة أخرى، أن الخطأ لم يأت بيار الجميل لا من خلف ولا من قدام ولا من فوق ولا من تحت فعاش معصوماً وابتدع وطناً لولاه لما بقي ولما استمر كيانه الخالد.
برغم الاختلاف الاكيد مع جوزف ابو خليل، وهو اختلاف لم يمنع استضافته في »السفير« كاتباً بوجهة نظره الخاصة، فإن ثباته العنيد على »إيمانه« ببيار الجميل يستحق التحية. لقد آمن به داعية لامس ببركاته حدود النبوة، وأسبغ على طروحاته ثوب العصمة…
يبقى ان أروي طرفاً من حوار لم ينشر مع الشيخ بيار الجميل على هامش مؤتمر لوزان للحوار الوطني (آذار سنة 1984)، الذي أعقب مؤتمر الحوار الاول في جنيف، وهو الذي امكن عقده بعد إسقاط اتفاق الاذعان (17 أيار سنة 1983) الذي عقده أمين الجميل مع العدو الاسرائيلي، وكان بعد يحتل نصف لبنان، ثم لم يوقعه، وتركه يسقط لينقذ رأسه.
في جناحه بفندق البوريفاج في لوزان، سألت المرحوم الشيخ بيار الجميل، الذي كان يسعى الى استنقاذ رئاسة ابنه أمين، بأي ثمن: كم لك في رئاسة حزب الكتائب يا شيخ بيار؟!
رد ببساطة: منذ أسسته في العام 1936.
قلت: عمرك الآن، العمر كله، قارب الثمانين… ولك على رأس الحزب نحو نصف قرن، ألم تتعب؟! ألا ترى ان الحزب يشيخ معك؟! لماذا لا تترك رئاسته لجيل آخر، هم عندك في منزلة أبنائك…
ورد الشيخ بيار بسرعة: اذا تركت رئاسة الحزب يتفكك وينهار. بل إن أبناء الجيل الثاني سيقتتلون على الرئاسة، وقد يقتل بعضهم البعض الآخر، وفي كل الحالات فإن الحزب سوف يندثر.
وحمدت الله أن الزميل جوزف ابو خليل لم يكن معي وإلا لكان أقنع الشيخ بيار بأنه اولاً لن يموت، وأن ورثته لن يقتتلوا (كما حدث فعلاً في ما بعد).
وها هو »البيار الجميلي« الأخير يقدم دليل إثبات في كتابه الجديد.
حكاية/ غزالة الليل
انبثقت من قلب ليلها بوجه غزالة بغتتها حركة صياد قريب ففتحت الدهشة عينيها باتساع أفق بحري بغير حدود: وهل ثمة من يجرؤ بعد على التمني؟!
أطلت من فوق على السامرين الذين جاؤوا يحاولون النسيان، فلم يتوقف نظرها الشاهق عند اي منهم بالذات، وإن كانت قد انتبهت الى ان واحداً فقط لم يظهر من الاهتمام ما يرضيها، وكان أن نسبت الامر الى ضعف بصره.
جلست وهي تجتهد في إقناع نفسها بأن المجاملة واجب، ولو بلفتة او كلمة او هزة رأس. مسحت الساهرات بنظرات عابرة تركز على الاجساد والازياء أكثر مما على الوجوه الناضحة بالتعب والخيبة او بالتصابي، فلم تجد من تستحق ان تبذل جهدا لتحديها او للتباري معها، فزادت مرارتها ثقلا… ثم مضت تستعرض مرة اخرى هؤلاء الذين يحاولون طمس ادعاءاتهم »الرجالية« في حضور زوجاتهم. يمكرون؟ هي الامكر! ستسلي بهم وقتها.
مدت عنقها لتشرف، دائماً من فوق، على ما في الخواطر والنوايا والاكواب وثرثرات التعارف الباهتة وضحكاتها المفتعلة.
تأكلها الضجر، واستعجلت العازف، بلفته، ان يكسر جو البلادة، ولو ببعض النقرات المنعشة… وعندما استحوذ العازف على انتباه الجمهور انطلق يستعرض فنه مطمئناً الى انه قد أنقذ المجتمعين من برودة لقاء التعارف.
صدح المطرب بأغنية طالما أخذتها الى طيف الغائب الحاضر فأغمضت عينيها الواسعتين تاركة ليلها يمد جناحيه من حولها ليحجب أفكارها عن الفضوليين وقارئي ملامح الوجوه… ومع الاغنية الثانية فالثالثة كان قد اكتمل صحو الغياب.
كان كلُّ مشغولٍ بنفسه يستعيد من ذكرياته الصور التي انعشها الصوت الجميل… وتعبت ألسنة الساهرات من نهش الموجودين، رجالاً ونساءً، والموجودات بدءاً بالأثاث وانتهاءً بالمائدة التي كانت قد مدت الآن في انتظار ان يمتلئ الساهرون طرباً فينتبهوا الى أنهم قد جاعوا.
خطرت في قلب النشوة ذهاباً وإياباً وقد طرز مشيتها النغم فاصطدمت بعينيه غير مرة، وفي لحظة قررت ان تمد ليلها بينهما لترتاح رامية عليه تعب الانتظار.
لم يتسع له ليلها وكان يعرف ان نهاراته لا تتسع لها، فظل يخب في فراغ الوقت منتشياً بقطر الندى الذي همى عليه فغسله ثم أعاد غسله كرة اخرى بالشراب الذي يأخذ الى النسيان.
قبيل الفجر، أرخت اليمامة ليلها على القاعة العابقة بالنغم حتى لا تضيع ثرثرات العيون التي بها يبدأ عصر الكلام!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
نادراً ما يظهر حبيبي غيرته، فهو يعرف أن النساء كثيرات، وأنني أراهنّ جميعاً في الشوارع وفي البيوت وفي المكاتب وفي اندية السهر الطويل… لكنه يعرف باليقين أن واحدة بالذات هي »المرأة« والباقيات تفاصيل متحلقة في نون النسوة.