سعيد تقي الدين: الحزب يغتال »موليير«
بين سعيد تقي الدين وبيني، على اختلاف الزمن والموقع والموهبة، حب مشترك لبلدته التي حملها في وجدانه دائما، بعقلين، فظلت تلطف هجرته بحلم العودة اليها… ذلك انني عشت بعض صدر شبابي في هذه الحاضرة الشوفية التي طالما شكلت الصوت، المرجح في الصراع التقليدي الذي كان يضبط الايقاع السياسي في جبل لبنان، والتي طالما اشتد التنافس عليها بين المختارة وبين دير القمر، لتكون بيت الدين في النهاية مقر من ينتصر فيحكم البلاد والعباد.
كان آل تقي الدين دار العلم في بعقلين، اما الوجاهة ففي المحل الثاني.
وكان حظي انا »المغترب« الوحيد فيها انني اخذت قليلا قليلا من العلم عن بعضهم في فرع المدرسة الداوودية فيها، اذ كان والدي رئيسا لمخفر الدرك في بعقلين في زمن »الثورة البيضاء« التي خلعت بشارة الخوري صيف العام 1952 وأتت بكميل شمعون رئيسا للجمهورية باسم الجبهة الوطنية الاشتراكية التي سرعان ما فرقها »العهد الجديد« ايدي سبأ، فاذا كمال جنبلاط يرتد بأسرع من لمح البصر الى موقع المعارض ليستقبل تدريجا سائر رفاق النضال في العهد المباد…
كان التمثيل السياسي للشيخ بهيج تقي الدين، النائب والوزير من بعد، والتمثيل الدبلوماسي للشيخ خليل، السفير، والتمثيل العسكري للشيخ منير مدير وزارة الدفاع والسفير من بعد ،والجامعة للشيخ بديع… اما سعيد تقي الدين فقد أسقطته الهجرة من الذاكرة، و أسقط عنه الانتماء الحزبي، بعد العودة، لقب المشيخة كما أسقط عنه الموقع السياسي باسم الطائفة… وهكذا فقد كان سعيد الخروف الابيض في بعقلين، التي أطلق »النقاش« على أهلها لقب »الغنم«، و»النقاش« هو ذلك الرجل المجهول الذي يعرف كل الناس عنه ولا يعرفونه، وهو الذي أعطى الألقاب التي جاءت في غالب الأحيان صائبة لمعظم القرى الشوفية بعد ملاحظة دقيقة لعاداتهم وتصرفاتهم اليومية.
بعد بعقلين وليس فيها، تعرفت على سعيد تقي الدين، فتعلقت بنتاجه الممتع، وبهرني أسلوبه الآسر… فأخذت ألتهم كتبه وأصادق شخصياته المبتدعة ، وفي الطليعة منها »شمدص جهجاه«، وأحاول استخدام أفعاله المبتكرة وأشهرها »صرعز« (اختصار لصرح عزام باشا، الامين العام المؤسس لجامعة الدول العربية، والمناضل القومي الذي انتهى موظفا يحاول تغطية تقاعس ملوك ذلك الزمن بكلماته المطاطة التي تغطي على فراغ المعنى ببدوي الألفاظ).
***
بعد سنين، وكان سعيد تقي الدين قد غادرنا، عملت مع راحل كبير اخر هو سعيد فريحة في »الصياد«… وهناك بدأت أستكمل ملامح »النقاش« البعقليني الذي تفوق على »نقاش القرى الشوفية«، سعيد تقي الدين.
وأخذت أجمع النوادر والحكايات الأسطورية، خصوصا عندما كان يلتقي سعيد فريحة وحنا غصن فيستذكران سعيد تقي الدين، او رياض طه وزهير عسيران، او خصوم الحزب القومي الذين كانوا يعتبرون سعيد تقي الدين أمضى أسلحة هذا الحزب الذي صادم كل الاقوياء.
وعلى امتداد عملي في حقل الصحافة، والذي بدأ عشية غياب سعيد تقي الدين، وهو مستمر حتى الساعة، ندر ان تعرفت على أسلوب ممتع كأسلوبه، والى مخيلة هائلة القدرة على استيلاد الصور الكاريكاتورية والتعابير الهزلية والمواقف المضحكة كمخيلته.
وكثيرا ما أستشعر أسفا عميقا من ان قلما مثقفا كقلم سعيد تقي الدين، تعززه مخيلة مبدعة، وطاقة على استيلاد المفارقات والمفردات والتوصيفات الكاريكاتورية والمواقف الهزلية، لم ينتج الا هذه الكتب القليلة.
لقد جنى السياسي الفاشل في سعيد تقي الدين على الأديب المبدع، والذي كان يمكن ان يكون أحد رواد الكتابة المسرحية وأحد المجددين في القصة القصيرة وأحد الأوائل في الكتابة الساخرة. وحده كان يمكنه ان يجعلك تضحك من نفسك دون ان تخاصمه.
وأضر التاجر الفاشل بالكاريكاتوري الناجح، فحرمنا من المزيد من النتاج المتميز والنادر في أدبنا العربي.
والحقيقة التي تكشفها الأعمال المسرحية التي أنتجها قلم سعيد تقي الدين، وفي وقت مبكر، كانت تعد بأن تعطينا »موليير« عربيا.
كان سعيد تقي الدين مهيأ بالسليقة للابداع في المجال المسرحي، وهو فن لم يعرفه العرب الا اقتباسا او نقلا، ولم يكتبوا فيه الا متأخرين… ولو تيسر له أن يهتم أكثر بهذا الفن لأعطانا مسرحا جميلا.
على أن أديبنا الكبير الذي كتب النصوص واعتلى الخشبة فمل وجه المخرج تحت طائلة التهديد بالقتل، انما كان يعيش حياته وكأنها مسرح عظيم، وهو فوقه شخصية أسطورية متعددة الوجوه هائلة الغنى.
في الوطن كما في المهجر، ومع الحال ومن دونه، ومع المرأة وفي غيابها، وفي العمل السياسي او عبر التصادم الحزبي، وفي الخصومة كما في التحالفات الاضطرارية التي كان يبررها الحلم القومي بالوحدة السورية، كان سعيد تقي الدين يتصرف ويتحرك ويكتب ويتكلم، ويلبس من يواجهه بالتحالف او بالاعتراض لبوس المشاركين في مسرحية غنية بالمواقف والمفارقات والتحليل النفسي العميق.
لقد تاه سعيد تقي الدين في الصراعات الحزبية والسياسية التي كانت بمجملها تقوم على »التآمر«، محققة ما قاله من ان »المؤامرة ثورة فشلت« وهكذا حرمنا من مزيد من ابداعاته الادبية، كما تهاوت نتيجة انشغالاته مؤسسة رائدة اطلقها ورعاها في بداياتها هي »جمعية كل مواطن خفير«.
وليس من المبالغة القول انه لو قيض لمثل هذه الجمعية الرائدة في زج الناس، كل الناس، في الصراع العربي الاسرائيلي، ان تستكمل أسباب حياتها، لكانت أحدثت تغييرات جوهرية في المواجهة وأساليبها ولكنا أعرف باسرائيل وأعرف بانفسنا وأعرف بطريقنا الى النصر الذي يبدو الآن في مستوى الأحلام.
لقد كانت »جمعية كل مواطن خفير« بمثابة وزارة الدفاع الشعبي، او الجهاز الشعبي لمكافحة التجسس تكافح التغلغل الاسرائيلي بالعملاء والجواسيس قبل البضائع، وبشراء الأملاك وتهريب الرجال والأموال الى اسرائيل ومعهم أسرار البلاد العربية التي كانت تشرفهم بمواطنيتها.
كانت قلعة من قلاع الصمود الهجومية… أين منها هذه المحاولات الخجولة لمقاومة التطبيع الآن.
تحية في ذكراه الى رفاقه الرواد الدكتور بشارة الدهان وعبد الوهاب الرفاعي وأنور شقير ووفيق الطيبي والآخرين.
وعسى الا يعتبر سعيد تقي الدين بعض الكلام في الغياب اساءة الى ذكراه الحاضرة دائما.
وفي أي حال فلقد ودعنا، اليوم، مرة أخرى، سعيد تقي الدين معتربا من جديد.. ولما سألناه عن سبب هذه الرحلة أجاب: انها روتينية، فمن عادتي ان ابتعد عن كل لبنان مرة كل ثلاث وثلاثين سنة.
لا وداع للموهبة. ولا وداع للابداع. ولا وداع لسعيد تقي الدين.
ملحوظة:
بعدما فرغت من هذا النص، تلقيت اتصالا عاجلا من صاحب العزة »شمدص جهجاه « أبلغني فيه أنني إن أنا صرعزت بما يسيء الى مبدعه فلسوف »يطلق عليّ إشاعة، بدلا من إطلاق الرصاص«، ولسوف يفلت لسان صديقه »يوسف شمسطار« لينخر في سمعة أهلي وليفتك برصيد جريدة »السفير« المثقلة بالاخبار السيئة والكتابات غير المبهجة، والتي بعدما صار قارئها يكتب لم يعد يصدق ما يقرأ.
واعتبرت كلام شمدص جهجاه حفنة ريح في غابة الكافور، وقلت في نفسي : »لولا المحامي« لكنت »المنبوذ«. نشرب »نخب العدو« »أنا والتنين« في »غبار البحيرة« تنفخ »الرياح في شراعي« »موجة نار« في »ربيع الخريف«.
وحين حاولت النقاش على طريقة الأقوام المتحضرين، باغتني شمدص بالقول: »حضارتنا، تقول، هه! في كل بيت بارودة وليس في كل بيت مكتبة«.
وفكرت ان ألجأ الى الحصن الاقوى الذي كان مقدرا له ان يحمينا من عدونا في داخل بيوتنا، جمعية كل مواطن خفير، فإذا شمدص جهجاه يقهقه عاليا وهو يقول: »رحم الله موتاك، صار لي 43 سنة أجمع اثنين واثنين ولحد الآن ما طلعوا أربعة. لم يتبق لك غيري، فتعال، هذه مائدة جيدة تنفع عذرا جيدا لتلقي خطابا رديئا«.
وقد فعلت…
عيون الآخرين
تكاثرت النساء حتى صرن واحدة مفردة لها ملامحك واسمك والشامة التي على طرف التشهي.
وقلّ الرجل فصار جماعة تملأ القاعة الفسيحة بضجيج الشوق الى لحظة فرح في بيداء التعوّد البليد.
لم يلفظ احد كلمة »أحبك«، لكن النشوة التي تقطرت ندى غمرت وجوه هؤلاء المتعبين بذل السعي لتحقيق مطامح الآخرين، والذين يغلف الحذر كلماتهم وشهقات الترحيب بالمنبثقين من قلب الغياب.
كان يحاول التحرر من أسار عينيها اللتين يعشش فيهما حزن معتّق، وهو يتنقل بين الآهات المثقلة بالرغبة والكؤوس التي يفرغها العطش الى الانعتاق من الوعي.
كيف السبيل الى كسر جدران المصادفة، بغير ان تخسر ارض اللقاء؟!
ما أضيق الصحراء التي لا تتسع لشهقة المضنى. ما أوسع الجرح الذي لا يداويه زبد الكلمات التي يقذفها بحر الصد على الشواطئ المشوقة الى الخطى المتسللة لعشاق الليل.
الاستسلام اعتراف نبيل بالهزيمة المظفرة، والرايات البيضاء اشهار مضيء بملامسة أطراف الحلم.
يقرأ اضطرابه على وجه »فرانسيس« فينتبه الى سلوكه، حتى يعود الارتياح الى ملامح السذاجة الغامقة السمرة والغربة الذابلة العين، والفرح المكتوم لهذا الخادم الذي اكثر ما يسعده ان يقوم على رعاية السر المكتوم.
يتمتم »فرانسيس«: ما زال الصبح بعيدا، عندي فرصة طيبة لتكحيل عيني بلقاء الفجرين.
لكن الخوف يظل أثقل من ان يستطيع »فرانسيس« رفعه مع الآنية الفارغة، وأقسى من ان تذيبه ابتسامته المرتبكة.
وحين يقرر الاقتحام تنبثق الشمس من سقف الصالة المكيفة، وتقتحم النوارس النوافذ المصفحة، ويكتب السر نفسه بماء العيون… فنطوي علينا الليل، بأمل استيلاد زمن اللقاء الجديد.
يقف في الهواء معلقا، فلقد امتلأت الامكنة بعينيك حتى لم يتبقّ امامه غير الغرق فيهما.
اما هي فقد أغمضت دونه جفنيها، وذهبت محاولاته للولوج ادراج الدموع.
تأملها في عيون الآخرين فزها بنفسه حتى كاد رأسه يلامس الغيم في مدار الضوء.
وحين رأى صورتها في عيون الآخرين فقد أثاره خوفه عليها حتى الرقص ليشغلهم بحركاته المضحكات عنها وعن غفلته.
ليست السباحة في عيون الآخرين ممتعة.
الجحيم هو الآخرون، يقولون، لكن انسانيتنا لا تكتمل الا داخل هذا الجحيم.. الحميم!
يقرأك الناس في عيوني
كالمسحور جلست متصلبا اقرأ من على شفتيك كلماتي، ويقرأ الناس اسمك في عيني،
صارت القاعة خميلة، نتأرجح فيها مع ارتعاشة الضوء، وتحوطنا الهمسات المنسربة من ينابيع الفرح: ها العشق مشاع يتغلغل كالهواء في الصدور المثقلة بسأم الفراغ.
وحين جمعنا صمت الهنيهة على الحد بين اللقاء الذي انقضى واللقاءالذي قد لا يكون، انحطم الكلام على الشفاه المتيبسة في انتظار مطر العيون.
لماذا يأخذنا التلاقي الى الغربة،
لماذا يأخذنا الشروع في الحب الى الخوف من الانكسار؟!
لن اطفئ عيني حتى لا يقرأك الناس فيهما،
ولسوف تظل ارتعاشة الشفتين ترسم حروفي، مبعثرة، في انتظار الاكتمال في شفق الموعد المعلق على المصادفة المقصودة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
تحفرين في متني وبالكاد يعبر ظلي هامشك.
تكتبينني على هامشك، وتمحوني آه واحدة.. ولكن ما نفع بياض المجاملة في متن يتعشق الحياة؟