تقادمت الذكرى فبهتت دلالة التوصيف: النكبة… وغاب جيل ما قبلها فغارت الذكريات وأصبحت أشبه بحكايات مأسوية لا ترتبط بزمن محدد وأرض محددة وناس بعينهم.
ولولا أن الفلسطيني قد بعث فلسطين، واستولدها مجدداً باستشهاده، لغابت أكثر، ولبهتت ملامحها فلم يعد يعرفها حتى أهلها.
كأنما كُتب على الفلسطيني أن يموت لتحيا فلسطينه، وأن يكتب تاريخه دائماً بدمه، وأن يكشف تخاذلنا بصموده، ويفضح تخلينا عنه بإصراره على الانتساب إلينا.
منذ عشرات السنين ينزف الفلسطيني صفحات وصفحات من حاضره ليكتب على أرضه حقه في مستقبله.
يكتب أطفاله، بأحداثهم الصغيرة المطوية على أحلام عظيمة، سيرة الصهيونية. كان عليه وما زال أن يزرع في كل شبر شهيداً لتوكيد ملكيته للأرض، أن يطعم الأرض أبناءه ليؤكد أنها أمه… وليشهر انتسابه إليها، وغربة الذي انتزعها منه بقوة السلاح.
كان عليه أن يقتحم على أخوانه العرب خلواتهم واستكانتهم إلى عجزهم لكي يريهم فيه صورة ما ينتظرهم من عدوهم الذي أخذهم الوهم في «طبيعته» إلى الخلط بين السلام المستحيل والاستسلام الذي لا ينجي من الموت.
***
الموت كثير، الحزن قليل، أما الفعل «خارج» الأرض التي ليس لها خارج فمرجَأ أو مغيَّب أو ممنوع، بقرار «عربي» في شكله، أميركي بلغته، إسرائيلي بمضمونه.
الموت جماعي، الحزن فردي، والنسيان بالتعود مهرَب ممتاز.
حزن الانكسار لا يصنع إلا المزيد من الاستسلام.
على الحزن أن يصير غضباً، على الغضب أن يصير عاصفة، على العاصفة أن تُسقط الأقنعة وتكشف المواقع.
إن لم تنظر هزيمتك في عينيها فستظل أضعف منها، وستلحق بك حتى الحفيد الألف. ستشوه نسلك وستلغي تاريخك وستخيّرك دائما بين حياتك لاجئاً أو بين الموت من أجل بعث وطنك للآتين بعدك.
تعبر الموت فيعبر وطنك إلى الحياة.
الوطن ضيف ثقيل الوطأة على الآخرين. لا مجال لوطن لاجئ، أو وطن طائر، أو وطن جوّال يتناوبه المنع من الدخول في المطارات الشقيقة.
***
هي حرب على العرب بعنوان فلسطيني. رمى العرب العنوان بعيداً وهربوا من المضمون.
متى بدأت الحرب على العرب، وفي فلسطين بالذات!؟ منذ مئة عام أو يزيد قليلاً؟! منذ ألف عام أو يزيد قليلاً؟! منذ أن خرجوا من «جاهليتهم» فتحضروا وانتسبوا إلى أرضهم وسمائهم وباشروا إسهامهم في الحضارة الإنسانية بالدين والفكر والرياضيات واللغة والطب وسائر العلوم؟!
لا مهرب ولا باب نجاة من هذه الحرب التي تكاد تكون ضد «الجنس» العربي.
وأخطر الأسلحة، حالياً، يتمثل في هذا الخروج من العروبة وعليها كأنه طريق إلى السلامة بينما هو الطريق إلى الاندثار.
صارت الهوية العربية قاتلة أو مهينة يسعى صاحبها للخلاص منها ولو بتمزيق جلدة وجهه أو باستعارة جنسية هجينة لروحه.
لا حقيقتنا ماثلة في صورتنا، ولا صورة أسرائيل هي حقيقتها. نزور أنفسنا، خوفاً، فلا تقبلنا. ونقبلها مزوّرة حتى لا نُتهم ونحن أحفاد سام بن نوح بمعاداة السامية.
صرنا نأخذ صورة إسرائيل من العالم الخارجي، وليس من خلال تجربتها المباشرة في تعظيم ذاتها بإثبات عجزنا، يومياً. يقتلنا جندها فنأخذ من العواصم البعيدة مطالبتها بوقف العنف. تدمر طائراتها ودباباتها بيوتنا فنسمع العالم يردد شكواها ونرددها معه!؟ من أن بعض «مواطنيها» قد أصيبوا بصدمة نفسية لأنهم اضطروا إلى النزول إلى الملاجئ لساعة أو بعض ساعة!
والواقع أننا لم نكن نرى من صورة إسرائيل في العالم إلا بعض النتف المجتزأة التي لا تقدمها بقوتها الهائلة التي تكشفت عبر المواجهات في ميادين الحرب الشاملة.
لم نكن نعرف عن تاريخ نشأتها، كفكرة ثم كعقيدة، ثم كاستثمار اقتصادي، ثم كقوة مهيمنة، إلا نتفاً قليلة لا تستنفر العقول والإرادات.
لم ننتبه إلى هويتها الغربية، إلا بعدما باتت قوة عظمى في أرضنا. اكتفينا بأن نراها «جسماً غريباً» لا بد سيلفظه الجسم العربي لمنطقتنا.
لم ننتبه إلى أن توراتها هي الكتاب المقدس في الغرب كله، الأميركي منه والأوروبي، وإلى أن الوافدين الرواد كانوا مجرد طلائع مقاتلة، أما القواعد الخلفية فكانت في قلب القصور الحاكمة ووزارات الخارجية والحرب، وفي المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث، وفي المصارف والشركات المالية الكبرى ومراكز الإنتاج.
ومؤخراً فقط، بعدما بدأنا نتعرف على الإعلام بتأثيراته الهائلة، انتبهنا إلى أنها تمسك بمعظم مراكز التوجيه والإعلام المعاصر، بمناهجه العلمية وأساليبه العملية المتقدمة، في العالم أجمع.
وحين انتبهنا سارعنا إلى الاستسلام: كنا نحكم عليها من خلال صورة «يهودنا»، الذين كانوا مثلنا وأتعس، ولم ننتبه إلى إسرائيل العالمية، إسرائيل رجال المال والأعمال والنفوذ، حمَلة جوائز نوبل، كبار العلماء والأطباء والفلاسفة والمثقفين وأساتذة الجامعات والمخترعين الذين يعملون لها ويقدمون لها إنتاجهم حيثما كانت مواقعهم.
وانتقلنا من لوم النفس على هزيمة غير مبرَّرة، في المواجهة التي ليس في يدنا أن نوقفها، إلى لوم النفس على التورط في مواجهة مع العالم كله لا نقدر عليها ولا نجني منها غير الخروج من العصر.
لكأننا كنا نشترط أن يكون عدونا ضعيفاً لنحاربه، فإذا كان قوياً طلبنا السلامة بالاستسلام والتقدم بطلب أن يعطينا من خيرات أرضنا كفاف يومنا، ومن رحابة التاريخ الإنساني دور «تابعه» المطيع!
***
القاتل هو القاتل، والدم هو الدم، والأرض هي الأرض، والصفقة مستحيلة.
كيف تعقد الصفقة وأنت موضوعها، وعليك أن تغيب لتتم، فأنت قتيلٌ، أمس أو اليومَ أو غداً؟.. وغائب دائماً.
لنعترف: إنها في لحظات تبدو وكأنها حرب العالم ضد العرب. ألم يشارك فيها مستقدَمون من أطراف الكرة الأرضية، شرقاً وغرباً؟! ألم يسهم في تزوير حقيقتها كل الكتبة والفريسيين، وباللغات كافة، بما في ذلك العربية؟!
إنها حرب العائدين إلى صناعة التاريخ، وهم يرون أن من حقهم أن يُخرجوا منه نهائياً كل الذين تخلفوا عنه فغابوا عن صفحاته منذ مئات السنين، وتركوا لغيرهم أن يكتبوه، إلا في صفحات قليلة كُتبت بالأحمر القاني فصارت علامات على الطريق إلى الغد.
ليس لنا غير دمنا لنكتب أسماءنا على أرضنا وفي تاريخنا.
وأول أسمائنا وآخرها: فلسطين.
نشر هذا المقال في جريدة ا”السفير” بتاريخ 18 أيار 2001