»حطاب الكلمات« رياض فاخوري يترجم لفتى الجليل..
بالإيمان تسقط المسافة وتتهاوى الحدود فيصل المؤمن ويطمئن ويده تلامس وتتبرك بجدار اليقين، الذي سرعان ما ينفتح أمامه ليجد نفسه مع »السيد« مستمعا ومحاورا وناقلا البشارة،
ولا يتبقى أمام المتصوف بوعي، رياض فاخوري، غير أن يعمم بلغته ما سمعه أو ما استخلصه أو ما أراد أن يفهمه من كلمات »فتى الجليل« الذي يسكنه ويملي عليه حتى ليكاد يأخذ عنه نبرته إضافة الى المعنى:
»أيها المتواضع، يا إله أرضي الضالة،
»متى يستكين هذا العذاب في صمتي وفي قيامتي؟!«.
يتفجّر المتصوف المطلّ على »السيد« من عند عتبة القرن الحادي والعشرين ألماً وهو يشهد عملية التزوير الهائلة التي تكاد تجرف الإرث النبيل لذلك الذي جاء يعطي ولا يأخذ:
»لقد مرّ عابسا من هنا، ولم يسلّم عليّ فحزنت
كانت سمته بلون البرق والرعد، وشعره أسود طويلاً.
ورداؤه يجلي جسده النحيل، اما بشرته فكانت تميل الى السمرة وجبهته عالية كالشمس والقمر والنجوم«.
يجرّب رياض فاخوري ان يرتدي مثله »شرنقة طفولته«
ويجرّب »فتى بيت شباب« ان يعمل بما قيل لعندليم: ليس أبشع من تجربة تُقرأ في الكتاب وتنام في نظرية… فكل ما يُكتب عن الرغبة معزولاً عن التجربة باطل هو، وكل امرأة تنظر إليها وكأنها الخطيئة بذاتها هي امرأة تُدينك وتشفق عليك..«.
يحاول رياض ان يصعد اليه ثم ينتشي وهو يسمع ما يقال بلسان الشاعر ارومان لأليصاب التي تتركه الى غيره:
»تهتمين بي وأنت تطلبين أنور. إذهبي الى البراري ولمّي حبقا وزوفا. لمّي وردا وياسمينا، وتعالي ننتظر فتانا الجديد. لا تسألي عن شيء. في البرية الضّاجّة بالفراشات والعصافير بل لمّي العطر من الحديقة فقلبك يفرح بالشذى وروحك تنساب في مزامير الشعراء والمرنّمين.
بشجاعة تخترق حدود الإيمان اليومي، وبصوفية تخترق حدود الشعر الى نثره الجميل، يكتب رياض فاخوري بعض أحلامه المستمدة من »السيد« والتي تحاول ان تأخذنا إليه، ومعه بعض صحبه وأتباعه الطيبين: هيروديت وعندليم واليصاب وترهان وأرومان وأنور الخ..
»حطاب الكلمات« رياض فاخوري يثبت ان له ملكا في الحقل، وهو لا يكاد يترك شيئا من حطبه ليوم جديد،
يصغي هذا »الصوفي من بيت شباب« فيسمع صدى الصوت الطالع من الأرض، النازل من السماء، المتردد مع الريح وعبرها: أنا معكم مجددا، كونوا محراثي وسكتي وأرضي الحالمة بالإنسان الجديد.
»انه الوعد بالتراب..
»أيها الأبيض، يا إله الشجر والدموع. تأتي. من أجلنا تأتي. هنا رأيناك. وهناك كان لنا أن ننشد وباسمك: المجد في السماء وعلى الأرض الحقيقة الأزلية..«.
يخاف »فتى بيت شباب« من شكه فيلجأ الى »فتى الجليل«:
»ابي وإلهي، أنت فيّ وأنا فيك. لا تتركني عرضة للشك، وليتمجّد اسمك الآن والى أبد الدهر«.
لا سبيل الى الطمأنينة إلا بالحلم، يقول »السيد«.
ويلحّ »السيد« على الأحلام حتى تحسبها مدخلاً الى الدين أو هي في صلبه.
»في البدء قلت لكم أن تحلموا. والآن غنّوا معي كي يكتمل جسدي الترابي بكم وبحلمي. فأنا مشتاق الى عودي ومزماري كي أرمي عني هذا اللحن القديم الذي جئت تستقبلني به يا ساروفيم«.
في البداية كان الحلم، ولا يمكن تجنب النهايات الحزينة وتجاوزها إلا بالأحلام، ولذا يشدد »السيد« على وصيته:
»قبل أن تنادوا وتستسلموا للنعاس احلموا، احلموا. الحلم يقرّبكم من الحقيقة مبعدا عنكم اليأس والقنوط. ومسكين نسل أبي الذي لا يحلم. ومسكينة المرأة التي لا تحلم وهي تلد..«.
* * *
لا مسافة بين الجليل وبيت شباب. لا مسافة بين الإيمان والمؤمن. لا مسافة بين الحلم والحالم. لا مسافة بين العطر والندى.. وأخيرا: لا مسافة بين الله والإنسان.
كذلك لا مسافة بين الرغبة والرغبة.
»اننا أحرار يا هيروديت حتى في عُرينا.
إذا لم تكوني هيروديت طفلة العراء الشفاف فلن تكوني امرأة ترتدي الأنوثة شعاعا لها. حتى عذارى أورشليم اللائي جئن لاستقبالي هنا الآن، لن يشعرن بسعادة العطاء وفرحه إلا إذا كن منطلقات كهذا السفح الهادئ الجميل«.
ومن جديد يأتي الصوت هيروديت فتسمع:
»أنا الآخر فيك. وليس لك إلا ثنائيتي في هذا المكان الموحش. وكما تنشد من قبول الرجل لك عارية حرة، تقدمي إليه وغامري ولا تخافي من وحدته. فالوحدة أن تكوني الى جانبه، منطلقة الجسد لا محدودة الروح.«.
لا بد من زهر مع الدعوة، ولا بد من »العليّة« لكي يكون للفرح مكان، وهكذا تجيء الدعوة حارة ومباشرة: »العليّة امتلأت بالزهر، والزهر أصفر جميل فتعالي. قدّمي وردة من قلبك، الحب يحييك بعد انتظار طويل. وإذا لم تبوحي بسرّك عنه في الوقت القصير التلال الضاحكة سوف تتحدث عنك وترقص رقصتي التي أحب«.
ومرّ صوت: »لا تتركوا فرحا يمرّ، لا تتركوا امرأة تعبر«.
انكشف الحجاب وتبدى رياض فاخوري على حقيقته: عاشقا أخذه العشق الى صوفية الإيمان، أو مؤمنا لم يجد الى ايمانه طريقا أوضح من الحب وأقصر.
»فتى بيت شباب« قال لنا بلغته الكثير مما قاله »فتى الجليل« ولم يسمع، وبعضه لم يُفهم، وبعضه الثالث ما زال سراً لا يفك رموزه إلا الشعراء مثل رياض فاخوري.
كسوتان للسيد الرئيس..
لا يموت التاريخ ولا يمكن إغراقه إلى الأبد في بحور التزوير والافتراء والطمس المقصود.
وثمة لحظات تستوقف التاريخ فتعطيه بداية جديدة وتملأه بمعنى مختلف عن الذي كان في أيامه الغابرة، وتصبح منارة ومرجعا.
مع وصول أحمد بن بلة الى بيروت تكثفت الذكريات وأمطرت عطرها الندي.
جاءت من خارج السياسة، ومن خارج التقييم التاريخي لتجربة الرجل الرمز في الحكم الذي غالبا ما يكون، مع انتصار الثورات، مزيجا من المحرقة والمقصلة والمجزرة الجماعية.
كنت في الجزائر العاصمة يومها، والذكريات منقوشة على جدار القلب وغشاء العين لا تغادر الذاكرة ولا تسمح لأمر أن يمحوها أو يضيّع تفاصيلها الفريدة:
بعد الانتخابات الأولى في تاريخ الجزائر المستقلة، قامت »الجمعية التأسيسية« أي أول برلمان منتخَب، وكانت مهمته الأولى انتخاب الحكومة الأولى للدولة الخارجة بقوة الثورة الى النور، وقد انتصرت فاستعادت هويتها الوطنية وانتماءها العربي ودينها الاسلامي يمارسه شعبها بلا قيود.
شهدنا الجلسات الأولى لهذه الجمعية التأسيسية التي يندر أن عرف العمل مثيلا لها، خصوصا في أعضائها:
كان النواب آتين من الثورة، مباشرة، لكأنهم يهبطون الآن من الجبل حيث كانوا »يهزون السلاح«.
الأكثرية الساحقة من بينهم كانت قد تركت بعضها في الجبل أو على الطريق بينه وبين المدينة، ودائما للثورة.
سليم الجسم كان استثناء. البعض جاء بعين واحدة، وبعض آخر بلا العينين، وبعض بيد واحدة، والبعض الآخر من دون يديه الاثنتين، وبعض برِجل تسندها عصا، والبعض الآخر على عكازتين وبلا رِجلين.
كانوا قد أطعموا الثورة أحلى سنوات العمر وبعض الجسد.
في الجلسة الثانية: انتُخب أحمد بن بلة رئيسا للحكومة الأولى في الجزائر المستقلة.
في الجلسة الثالثة: انتُخب الوزراء، وكانت ثمة صعوبة في العثور على ثوار متعلمين ومؤهلين لإدارة الدولة، فمعظمهم لا يتقن إلا لغة الثورة وأدواتها وخططها.
في الجلسة الرابعة وقف نائب فبدأ كلامه بالاعتذار: »ما تواخذونيش خويا، أنا ما نهدرش العربية. نهدر جزايري. وأنا عندي (بحث عن كلمة اقتراح فلم يعرف فاستبدلها بمعناها بالفرنسية)… اقتراح. أنا نعرف السي أحمد بن بلة مليح، ونعرف ان السي أحمد ما يملكش إلا كسوة واحدة. الآن السي أحمد بن بلة ولى رئيس. بريزيدان. وراح يتلقى رؤساء وسفراء. الطلب ان نصرف للسي أحمد ثمن كسوتين..«.
ودار نقاش قصير، ثم اقترع النواب ونجح الاقتراح، وتم صرف ثمن كسوتين للذي غدا الآن رئيسا وبات عليه أن يكون لائق المظهر لأنه سيستقبل رؤساء وملوكا وسفراء وضيوفا من الأجانب.
الجزائر الآن تبحث عن كسوة،
وتبحث قبل ذلك عن أولئك الثوار التي صنعوا مجدها وأعادوها الى ذاتها، والذين جاءوا الى الحكم بأجساد ناقصة ولكن بإرادة كاملة، وبنقص في الكساء ولكن بأخلاق كاملة.
سقى الله أيام »السي أحمد«.
خيول السنابل الزرقاء
لم نلتقِِ النهار ولم ندخل فلك الليل،
أوقفنا زماننا زمنا على رصيف المساء ننتظر نداء الأشرعة لكي نعلن نهاية السفر.
ترحل المدينة متوغلة داخل أوهامنا الريفية.
ونتوقع أن يدور بنا الرصيف مثل »المورج«، وان تترامى علينا العصافير لتلتقط الحب المقدس من الأكف المشققة بالشوك والعوسج ودلال الصبية.
أهوم بك داخل أخيلتي، فتلتف حولك ولا تغادرك.
أطير بك فوق خيل الرغبة الزرقاء، وحين نبلغ الغيم تتسللين اليه فتتمددين فيه حتى التلاشي.
تقولين: أردت حمايتك بظلي من شمسي!
تقولين: ولكنك أتلفت البيدر وارتفع حريق السنابل يزمجر بصوتك!
لماذا أحرقت السنابل؟!
لماذا أتلفت بيدر القمح حيث كان ملجأنا وشاهد حبنا يحمينا ويعمّدنا بعرقنا المقدس؟!
مواعيدي في أصص المصادفات
حان أن نغادر المصادفة.
تكتسب المصادفة معناها حين تتحول الى جسر نحو الموعد الثاني.
فكيف نقيم داخل المصادفة وبابها لا ينفتح إلا مرة واحدة،
هل يظل موعدنا معلّقاً بين المصادفتين ولا عنوان؟
أنتظرك خلف المصادفة وقبل الموعد..
وربما غافلتك، مرة، لأزرع المواعيد في أصص المصادفات،
في موعدك تتفتح أكمام الورد، وتسافر المصادفات الى التائهين عن الحب والحبيب.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تصدق لسان المرأة، ولا تصدق حتى عينيها. ولكن صدق صمتها. صدق حوارها مع ذاتها. إن أحبتك كنت معها في كل مكان وفي كل حين، في يقظتها وفي المنام، في حديثها عن الطبخ مع الجارة وفي حديثها الهاتفي مع أمها أو أبيها.
ستلمح ظلك في صمتها، وستسمع عبر صوتها (وهي تتحدث الى غيرك) نبرتك وبعض كلماتك.
ضحك »نسمة« ضحكة قصيرة ثم قال:
الحب فضّاح… ربِّ أدِمْ علينا نعمة الفضيحة!