تجاوز موضوع تشكيل الحكومة الجديدة حدود المألوف أو المقبول في ظروف عادية، فكيف والبلاد تنام وتستفيق في قلب مخاطر الفتن والحرب الأهلية؟
يجب أن يتوقف اللعب على حافة الهاوية: استثارة طائفة ضد طائفة أخرى، تبديل المعايير والمقاييس من دون سابق إنذار لاستبعاد طرف (طائفي) في لعبة هي في مبتداها ومنتهاها “طائفية” العنوان والمضمون، ادعاء الحق المصري لهذه الطائفة أو تلك في حقيبة معينة، التمييز بين الحقائب “السيادية” و”الخدماتية” بطريقة أقل ما يقال فيها انها تحقير للشعب وتتفيه لوظيفة الحكومة عموماً ووزاراتها المتعددة التي تطل علينا من باب العجز المالي المطلق.
يجب أن يتوقف هذا العبث بحياة الناس وأرزاقهم.
بل انه عبث بالجمهورية كياناً ونظاماً سياسياً ومؤسسات.
والأخطر أنه عبث بما تبقى من ركائز الوحدة الوطنية، في جو مأزوم يتناهبه الشحن الطائفي والمذهبي، فلا شيء يمنع من أن تنحدر تصريحات التذاكي وبيانات التشاطر السياسي إلى وهدة التحريض المكشوف على الفتنة.
ها ان الطبقة السياسية تتبدى أمام هذا الشعب الذي لا صوت ولا دور له، عارية، مكشوفة: لا هم يهتمون بالمناخ السائد في البلاد، وهم قد لعبوا دوراً خطيراً في توليده بكل ريح السموم فيه، ولا هم يتنبهون إلى المخاطر التي تتهدد كيانات المنطقة، في جو من الصراع الدولي الذي يفرض أي حس وطني طبيعي بذل الجهد لتجنب تأثيراته المدمرة، بشهادة العراق تحت الاحتلال الأميركي وفلسطين التي يكاد يذيبها كلياً مشروع التوسع الإسرائيلي بالاستيطان وجدار الفصل العنصري، فضلاً عن الصراعات الأهلية فيها بكل نتائجها المأساوية على حلم “الدولة الشوهاء” حتى لا نقول: “على حلم التحرير”.
صار الرؤساء والوزراء بطوائفهم ومذاهبهم عارية: كيف تبنى حكومة وحدة وطنية بممثلين صريحين لطوائفهم التي تعيش حالة محمومة تجد فيها “الدول” مجالاً رحباً للتدخل، البعض بالتبني والبعض الآخر بالتحريض؟!
ثم إن هذا التمثيل الطوائفي يخضع لتصنيفات عجيبة: مرة تكون الكلمة للأكثرية (الطوائفية أو المذهبية)، ومرة ثانية تستخدم “الأكثرية” ضد من يمثلها طائفياً ويشهر سيف الوحدة الوطنية ضدها، ليمنع إسناد حقيبة معينة إلى رموزها؟!ومرة ترتفع الأصوات بضرورة إعطاء رئيس الجمهورية “الصوت المرجح”، ثم فجأة يتم الاشتراط على الرئيس: توزر من هذه الطائفة لا من تلك.. وبالإجمال يستخدم موقع الرئاسة لتصفية حسابات معلقة، ويتم استنزاف رصيد الرئيس في الجدل الطوائفي حول تحقيق الديموقراطية التوافقية.
عبر معارك التشكيل تتهاوى الصفات المطلوبة في “حكومة الاتحاد الوطني” العتيدة لتنقلب إلى عكسها تماماً، فهذه المعارك “المطيّفة” يصعب أن تنتهي بتلاق على “الثوابت الوطنية”.
في ضوء هذا كله: أي بيان وزاري سيكون قادراً على تجميع هؤلاء المختلفين على البديهيات والذين سيدخلون الحكومة بطوائفهم ومذاهبهم المختلفة المواقف إلى حد التنابز بالألقاب؟!
السؤال الأخطر: عبر طوفان الجدل المحتدم حول التوزير ونسب التمثيل والحقائب السيادية وحقائب الخدمات، لم يسمع المواطن كلمة واحدة تتصل بهمومه المباشرة، سواء أكان صناعياً أم مزارعاً، مؤهلاً يبحث عن فرصة عمل، أم عاملاً يعيش حالة خوف مفتوح على ضمانات حياته وما تبقى من مؤسسات تكفل له الحد الأدنى من الاستقرار النفسي (الضمان الاجتماعي)… هذا قبل الحديث عن العجز المتفاقم في الدين العام والذي يحتاج إلى معجزات كثيرة، أولاها التكاتف الوطني في إقامة حكم قادر كمدخل إلى تصحيح ما يصعب علاجه.
كان الافتراض أن التوافق على رئيس في ظل ظروف استثنائية، هو الخطوة الأولى على الطريق إلى حل جدي للأزمة السياسية التي تعصف بهذا الوطن الصغير وتكاد تفرغه من أهله الأكفياء، لتتركه نهباً للفتن الطائفية والمذهبية.
وها هي الفرصة التي وفرها الاستثناء تكاد تضيع وسط المناورات وألاعيب تجار الأزمات في الداخل والخارج، جارفة معها “الدولة” جميعاً، ومعها كل البدع اللبنانية المنشأ كالديموقراطية التوافقــية، التي لا تعني شيئاً غير إخضاع الشعب لنوازعه وعواطــفه الطائفية والمذهبية المستثارة في ظل غياب “الدولة” في انتــظار إنجاح خطة همايونية عنوانها “إقامة حكومة وحدة وطنــية” لا يبشر مسار تشكيلها بأنها ستكون “حكومة” فعــلاً، فضلاً عن أن تكون مجسدة للوحدة الوطنية أو محققة لــها في المـــدى المنظور.
وآن أن ينتهي هذا العــبث بكرامة الشعب المنقسم على ذاته بفضل مثل هذه المــناورات التي تضــرب ما تبقى من أسس العيش المشترك لتفتح البــاب، مجــدداً، أمام الفتنة.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 16 حزيران 2008