قديم هو إعجابي بهذا الطفل الذي تمر به السنين مر السحاب فلا هو يغادر طفولته ولا هي تغادره. يدهمه الصلع، ويبلغ ما تبقى من شعره الشيب فيبقى الطفل في داخله متوهجاً، قلقاً، مدثراً بالسذاجة.. ربما لهذا يعتبره كثيرون، مثلي، واحداً من أنجح الأقلام التي كتبت للأطفال.
ولقد نجح حسن عبدالله في أن يحتفظ بمكر ابن السنتين، بينما يترك خياله طليقاً يعيد رسم موقفه من الحياة والناس بالسذاجة الجارحة كالصدق.
الطفل الأصلع الذي نطق بالشعر قبل أن يعرف الكلام، نصفه عينان ونصفه الآخر تائه بين “الدردارة” في الخيام ومجالس الذين تقاعدوا من الاهتمام بالشأن العام في وقت مبكر، لأنهم لم يعودوا يجدون ما يستحق أن يصرفوا عليه من ساعاتهم بغير طائل:
“الحقيقة تقيم في النصف المظلم من الإنسان، والترهات في نصفه المضيء”: هكذا قدم حسن عبدالله لديوانه الجديد “ظل الوردة”، وقد رسم الوردة بقلمه، ثم اندفع يلونها بعبث الطفل فيه، فإذا الغلاف لوحة كما القصيدة.
في التمهيد كتب: “لم يحدث أن غرقت في نهر أو بحر
والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك كانت هنا على اليابسة”.
هو لا يسمي هذه المجموعة ديواناً، كما الثلاثة التي سبقت “أذكر أنني أحببت” و”الدردارة” و”راعي الضباب”.. يكتفي بأن يسميها “شعر وتأمل”… وهو يعلن صراحة أنه سيواصل البحث والإنتاج: “هناك شيء تمسك به الحياة أو تخفيه وراء ظهرها.. ولن أتوقف عن الكتابة حتى أعرف: ما هو”!
.. مع أن حسن عبدالله كسول، بل هو يمارس متعة أن يتأمل بكسل أولئك الراكضين ليلحقوا بمواعيد مع “كبار” ليس لديهم ما يستحق الاهتمام، والذين سيصرفون كثيراً من الوقت قبل أن يكتشفوا أنهم أكبر ممن ذهبوا إليهم، فيلجأون إلى النقد الذاتي عبر قهقهات أصحاب الخبرات المعتقة، ممن أوصلتهم الخبرة إلى هذه الحقيقة الباهرة!
“وقفوا تحت شجرة الجوز… وراحوا يتحدثون عن عاصفة قادمة
فتساقطت أوراق الشجرة من شدة الخوف”.
حسن العبدالله، الذي تتعبه الكتابة فيهرب إلى الشعر، بات يختصر القصيدة ببيتين، فإذا ما هدّه التعب بعد الشطر الأول ترك لبياض الصفحة أن يوصل إليك المعنى.
“مضمومة الأجنحة تندفع عصافير الدوري من شجرة الجوز إلى شجرة التين
كأن هناك من يراشق بها..”.
أو أنه “مكث يحدق في الوردة حتى انفجرت”
أو لعله انتبه فنبّه رفيقته: هل ترين الفراشة؟ عجباً.. كيف تصمد هذه الهشاشة بجناحين؟!”.
ولكنه يأبى أن يرى الصورة زاهية حتى في الربيع وللربيع:
“الحياة لديها الكثير لتفعله في الربيع… والموت كذلك”!
مع أنه “في البرية التي أخاف فيها الذئب” شاهد ذئباً ميتاً!
بل إنه يحمّل الربيع فوق طاقته:
“لا تنشط اللذائذ في فصل من الفصول/ مثلما تنشط في الربيع/ والآلام كذلك”.
حتى الينبوع يراه “كعين تبكي من الفرح”.
ربما لهذا يدعو رفيقته إلى حمل مصباح في يدها حين تزوره، فالحياة مظلمة من حولي..”.
“الموت” تفعيلة تتكرر في هذه القصائد المن جملة واحدة، وكذلك “الألم”:
“الموت يروح ويجيء من حولنا بأقدام حافية.. لكي لا يحدث الجلبة التي توقظنا من حلم الحياة”.
فإذا غاب الموت حضر الألم والتعاسة:
“الآلام أهم مصدر من مصادر المعرفة” و”الألم ضوء”.. و”المؤلم في الألم هو شعورنا أحياناً بأنه عقاب على ذنب لا نعتقد أننا اقترفناه” و”أتعس الناس هم أولئك الذين يعيش الماضي المؤلم أكثر من عمره الطبيعي في ذاكرتهم”.
“حياتي، بوجه عام، كانت سعيدة.. فالمرات التي تمنيت فيها الموت لا تزيد على مئة مرة”.
على أن حسن العبدالله لا ينسى الجنوب، بل لعله يهرب إليه كلما أحس أنه يريد أن يتنفس ملء رئتيه:
“جيم جيم، الجنوب، أو جبل عامل/ الجنة أو الجحيم
الجنة عندما يكون لي/ والجحيم عندما يكون لعدوي”
وهو طريف في استذكاره لعيد التحرير:
“الحشرة الذهبية الطائرة/ عندما انقض عليها العصفور الطائر
بدت سعيدة… بأن تلتهم”!
والجنوب يفتح سيرة المواقف فيحدد حسن:
“أدفع ثمن مواقفي أكثر مما أدفع ثمن طعامي وشرابي
ها أنا أخيراً حر بعد استقالتي من العمل/ إن ذلك يشبه عطسة حُبست طويلاً”.
“شعر وتأمل” القصيدة الرابعة للكبار، أما قصائده للصغار فعديدة ومتميزة حتى لتحسب أنها تشكل سيرته الذاتية.
كيف اجترح هذا الخيامي المعجزة فترك السنوات تمر وهو قابع في طفولته، يمارس البراءة شعراً ويرمي نثره للعابرات كي يصنعن منه ضفائر مجدولة سرعان ما يتخذها مراجيح تاركاً لهن شرف دفع المرجوحة.
صحيح أن “كل إنسان هو إنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة”.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 7 أيلول 2012