نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 2 نيسان 2002
هي الحرب الإسرائيلية، مرة أخرى، وهدفها المعلن فلسطين، كل فلسطين، أي كل العرب بغير تمييز أو استثناء: المقاوم منهم والسلطان المُساوم، الصامد والسلطان المُصالح، المتنكر لعروبته والثابت على إيمانه بحقه في الحياة بكرامة فوق أرضه.
هي الحرب الإسرائيلية، مرة أخرى، بعنوان فلسطين، ولكنها كما كل الحروب السابقة تستهدف العرب جميعاً، في كل أرضهم، تحرق آمالهم في الحرية والتقدم وتفرض عليهم مزيداً من دهور التخلف والقهر وإذلال التبعية.
هي الحرب الإسرائيلية، مرة أخرى، تسقط علينا فنسقط تحتها، لأننا ـ كالعادة ـ لسنا مستعدين لها، بل ان سلاطيننا أسقطوها من حساباتهم نهائياً، مأخوذين بوهم السلام المستحيل، ومذعورين من أن توجه إليهم، بالشك، تهمة رعاية “الإرهاب” أو التغاضي عنه فيوقّع عليهم العقاب الشديد… ولإثبات براءتهم منه أعلنوا استعدادهم لتزوير القرآن الكريم ولإعادة صلب الشعب الفلسطيني نفاقاً ليهوذا وبيلاطس الجديدين.
هي الحرب الإسرائيلية، وهي بتحديد شيمون بيريز، هذه المرة، “حرب وجود” وليست نزاعاً أو خلافاً على الحدود… ولذا فالنار الإسرائيلية تلتهم فلسطين كلها بمدنها وقراها ومخيمات اللجوء جميعاً، من رام الله والبيرة وبيت لحم وبيت جالا، الى الخليل وقلقيلية وطولكرم (أما دور غزة الممزقة الأوصال فقيد التحضير، بعد “تنظيف” الضفة الغربية من روح المقاومة ومن إرادة الحياة).
هي الحرب الإسرائيلية ضد البشر والحجر والطير والشجر ونور الشمس. تغتال البيوت والأكواخ والمدارس والدكاكين. تحاصر الصلاة والدعاء والرجاء وتزرع الغضب والحقد. تدوس بالدبابات لعب الأطفال ويطارد القناصة أحلامهم البسيطة، ويحطم رجال الوحدات الخاصة عكاز العجوز وكراسي الجدة المصابة بالشلل ويريقون حليب الأطفال ويزرعون في عيونهم الصورة التي لن ينسوها لعدوهم في مستقبلهم كما كان عدو آبائهم وجدودهم من قبل.
هي الحرب الإسرائيلية ضدنا جميعاً، في فلسطين. ضد كل عربي، في كل قطر، وضد العرب في كل أقطارهم.
العدو واحد، الحرب واحدة، ولا مجال للهروب منها… والملجأ الأميركي مقفل في وجه الجميع!
هي الحرب الإسرائيلية الكاملة، الشاملة ولا أحد من العرب خارجها: تفضح عبثية الصفقات المنفردة واتفاقات الاستسلام التي لم توفر الأمان للسلاطين، فها هي شعوبهم في الشوارع تحاول إسقاط أوهامهم فإن تشبثوا بها سقطوا معها. ولن تحميهم الضمانات الأميركية ولا المعاهدات الإسرائيلية المكللة بجوائز نوبل للسلام؟
العدو واحد. والفلسطيني ليس وحده… إنه الصدر الأول الذي يستهدفه رصاص القتل الإسرائيلي. لكن الرصاص موجه عبره الى جميع العرب من أقصى أرضهم الى أقصاها.
ان العنصرية الاسرائيلية لا تفرق بين “الفلسطيني” وأي “عربي” آخر. امس كان “اللبناني” هو الهدف، وقبله “السوري” و”المصري”، و”العراقي” و”المغربي”، و”الجزائري” و”الاردني”. وهم جميعاً ما زالوا في خانة “العدو”، ولن تخرجهم منها اليوم او غداً او بعد ألف عام. والتحديد الاميركي للمعركة التالية علني: بعد فلسطين ومعها العراق، كل العراق، بشماله وجنوبه ووسطه والشرق والغرب. بعربه وكرده وسائر القوميات.
ليست فلسطين وحدها تحت الحصار. كل العرب تحت الحصار. ولا حدود بين ما يصيب الفلسطينيين في حاضرهم وما سيصيب العرب في مستقبلهم.
وليس صحيحاً ان الفلسطيني هو وحده الهدف. انه الطليعة. انه الرمز المكثف لامته. انه عنوان صمودها.
ابشع من الحرب الاسرائيلية ان يتم “تبريرها” بأنها انما تستهدف الفلسطينيين وحدهم. انها حرب على العرب جميعاً. ليس العرب خارج ميدانها، وان كانوا معطلين بالقهر والقمع والتخدير عن المشاركة فيها. انهم يحاولون الوصول الى اخوانهم المحاصرين في فلسطين.. وها هي طلائعهم قد عادت او انها تستعيد تدريجاً شارعها، اي إن العرب كشعوب يستعيدون وعيهم وبعض حرية حركتهم. ها هم يواجهون حكوماتهم، يواجهون وجوه التخاذل، يواجهون الهاربين من الميدان. يؤكدون وعيهم بوحدة قضيتهم. ويحرقون العلم الاميركي تدليلا على وعيهم بأن هذه الحرب الاسرائيلية ما كانت لتقع لولا الغطاء الاميركي الكامل والشامل والذي عطل حركة حكوماتهم و”عقل” ألسنتهم!
ان الغضب “الفلسطيني” من تردي الموقف الرسمي العربي مشروع، لكن اخوانهم من غير الفلسطينيين شركاء لهم فيه… لأنهم مثلهم ضحاياه. ما العمل الآن؟!
لن تنفع قمة جديدة. لو ان القمم تنجز ما تعقد من اجله لما كانت اسرائيل قد باشرت حربها الجديدة على فلسطين وبعض ضيوف قمة بيروت فيها بعد، ولما كان كبار رجال الادارة الاميركية يكررون تأييدهم المفتوح للارهاب الاسرائيلي وقد بلغ ذروته بالحرب ضد كل فلسطين، بغير ان “يحترموا” او “يحفظوا كرامة” اصدقائهم العرب الذين توجهوا اليهم بالرجاء من اجل قبول “سلامهم”.
لقد استهلكت القمم نفسها، واستهلكت من يحتشد فيها من اصحاب الالقاب المفخمة والمعظمة، بينما العجز الرسمي العربي موضع سخرية العالم جميعاً.
ان الشعوب محاصرة بشرطة حفظ النظام. والانظمة محاصرة بعجزها وبالارهاب الاميركي للحكام، وبالرعب من حرب اسرائيلية جديدة. لكن الصمود الفلسطيني، على كلفته الباهظة، سيشكل جسر العبور من حال الاستكانة واليأس من النفس والخوف من النظام والرعب من العدو، الى مواجهة الذات بداية ثم مواجهة من يعيق او يمنع التضامن الفعلي والحقيقي مع شعب فلسطين الاسير والمعرّض للقتل والاعتقال والترحيل الجماعي.
لقد باشر الفلسطينيون بلحمهم الحي مهمة تاريخية جليلة: لقد باشروا حرب استقلالهم، او انهم دخلوا في الطور الاصعب والاقسى منها. وهم الآن لا يخوضون معركة التحرير داخل فلسطين فحسب، بل كذلك وفي الوقت نفسه معركة تحرير عربية شاملة، وسيتلاقون في أفيائها غداً مع كل اخوتهم الذين كانوا مغيبين والذين يحضرون الآن.