يحمل المواطن عن العراق بعنوان بغداد صوراً متناقضة من الخليفة العباسي الاول المنصور إلى هارون الرشيد وحكاية الغيمة التي سيعود اليه خراجها حيث امطرت إلى ابي نواس وصراع الاخوين غير الشقيقين الأمين والمأمون ومذبحة البرامكة، ثم اغتيال الخليفة الامام علي ابي ابي طالب وهو يصلي الفجر في المسجد بالكوفة، وصولاً إلى مجزرة كربلاء واستشهاد الامام الحسين بن علي بن ابي طالب واخوته وابنائه وسبي نسائه ومن معه، صورة بلد الفواجع والنكبات وقسوة لا تمسحها نوبات البكاء حتى النحيب والتفجع والتحسر: “يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً”.
انها بلاد المطلق: في فرح السكر الذي يعقبه التفجع حزناً واستذكاراً لمأساة اهل البيت، ثم عراك السكارى وتضاربهم وتحطيم المقهى على الموجودين فيه.
وعبر تاريخه الطويل منذ السومريين والبابليين الحقت بالعراقيين سمات العنف المريع يعقبه البكاء ندما، والدخول من الكأس الاول في حالة سكر تستدر البكاء ثم العراك قبل الغرق في التفجع ندماً وتحسراً على ما فات.
لا وسط في سلوك العراقي: العنف حتى القتل، والشرب حتى السكر، والفرح حتى تكسير المقهى، ثم الانخراط في دوامة البكاء قبل الانطراح نوماً لا فرق في المكان، وهو داخل المقهى او في سيارة العودة.. بعد عراك مع السائق..
هو كريم حتى التفريط بثمن وجبة الغداء، وهو رقيق حتى البكاء فرحاً، اما في الحزن فهو الخنساء التي ستظل تبكي اخاها صخر حتى يوم القيامة.
منذ ثورة 14 تموز 1958 التي قام بها الجيش بقيادة اللواء عبد الكريم قاسم (ماكو زعيم الا كريم) ومعه العقيد عبد السلام عارف، تفجر العنف فكاد يدمر الوحدة الوطنية خصوصاً وقد اختلط الحابل بالنابل وعمت الفوضى واتهم الشيوعيين بتدبير التظاهرات، وجرت محاولة لاغتيال قاسم كان أحد ابطالها صدام حسين الذي اصيب خلالها بطلق ناري في ساقه، فاخرج شفرة من جيبه واخذ يعالج الجرح النازف مما أرعب سائق التاكسي فصرخ به “ابو عدي” قائلاً: هيا، التفت امامك واخرجني من هذا المكان قبل أن يصل رجال الشرطة.
بعد قاسم دخل حزب البعث إلى الحكم بعد انقلاب نفذه الجيش في بغداد فتسلم البعث (بالشراكة مع بعض ضباط الجيش) الحكم، وتم تعيين احمد حسن البكر رئيساً للدولة، في حين تولى صدام حسين نيابة الرئاسة في ظل شعارات البعث وأركانه.. على أن صدام، الذي أبقى “خاله” البكر رئيساً صار الرئيس المطلق والدكتاتور الذي لا يرحم، فسيطر الخوف على العراقيين بعد سلسلة من “موجات الاعدام” والاعتقالات حتى ساد الرعب العراق واستتب له الامر.
وخلال فترة حكمه الطويل أقدم صدام حسين على مغامرتين عسكريتين فاشلتين: الأولى بالحرب على إيران في ايلول 1980 التي كانت قد تفجرت بالثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني فخلعت الشاه محمد رضا بهلوي واعلنت قيام الجمهورية الاسلامية، وهي حرب استمرت حتى 20 اب 1988، وتوقفت بقرار مجلس الامن رقم 598 الذي قبله الطرفان والعودة إلى ما قبل الحرب التي حددتها اتفاقية الجزائر عام 1975.
ثم أن صدام حسين أقدم على مغامرة بائسة أخرى، فاحتل الكويت خلال ساعات… واستنفر ذلك العالم ضده، فنظم الاميركيون حلفاً عسكريا لإخراجه من الكويت، شاركت فيه فصائل من بعض الجيوش العربية، حتى “طردت” قواته من جنوب العراق التي احتلتها قوات اميركية (اواخر العام 1991) ثم تقدمت نحو بغداد فاحتلتها مع كامل مساحة العراق، وقبضت على صدام حسين وصورته مختبئاً في قبو في بستان، في بعض ضواحي بغداد، وسلمته إلى الغوغاء من الشيعة ـ زرعاً للفتنة ـ فاعدموه شنقاً بينما هو يلقي خطبة “قومية”، واقفاً بشجاعة، حتى عقد الحبل من حول عنقه فتدلى هامداً بينما الغوغاء تهينه بالشتائم والحركات المقذعة.
بعد ذلك تولى جنرالات الاحتلال الاميركي الحكم مباشرة، مع الاستعانة ببعض اصدقائهم من وجهاء الساسة العراقيين المستجدين الذين كانت غالبيتهم في المنافي، بعيدة وقريبة (واشنطن، لندن، بينما بقي اكثرهم في دمشق).
ولقد حدثت “انقلابات” عديدة داخل السلطة بعد جلاء العسكر الاميركي في حين بقي نفوذ واشنطن مهيمناً.. وهكذا فان العراق لم يستعد استقراره يوما، وظل شعبه يعيش حالة طوارئ، خصوصاً وقد “ظهر فجأة” تنظيم “داعش” الارهابي في الموصل، ومنها مد ظله الاسود نحو المناطق الاخرى لمدة عامين تقريباً قبل أن توجه اليه ضربات عسكرية قاسية تسببت في تشريد “المجاهدين” في هذا التنظيم الذين قصد بعضهم بعض نواحي غرب العراق في اتجاه سوريا، وصولاً إلى تركيا التي تعاملت معهم برفق، ولعلها استعانت ببعض مقاتليه في الحرب على سوريا، خصوصاً وانها لا تنكر “تعاطفها” مع مجاهديها!
ولقد تعاقب على حكم العراق ما بعد الاحتلال، الذي عدل في نظامه (على الطريقة اللبنانية) فصار رئيس الدولة “كرديا” سنياً، ورئيس الحكومة (الذي يملك القرار نظرياً) شيعيا، ورئيس المجلس النيابي سنيا، وبحسب القاعدة يتم تقاسم الحقائب الوزارية والمقاعد النيابية والوظائف العليا في الدولة.
ها هو العراق، ارض السوداء، يتفجر اليوم فقراً، ويخرج شعبه إلى الشوارع غاضبا، يشكو العنت والجوع وسوء الادارة، والسرطان الطائفي المذهبي الذي يدمر المجتمعات والدول.
حمى الله شعب العراق، بعربه وكرده، بالشيعة والسنة والأزيديين والكرد والصابئة والسريان، واعاده لأمته ليلعب دوره الذي لا بديل منه في خدمة اهله وتحقيق غدها الافضل..