حتى الآن، وربما لآمد طويل، نجحت الرأسمالية وفشل خصومها الذين ناضلوا ضدها على ساحتها الاقتصادية السياسية الاجتماعية أو على ساحة الايديولوجيا الدينية. جماعات الايديولوجيات الدينية يعملون عند الرأسمالية، حتى لو ادعوا غير ذلك. بسرعة وزعت الرأسمالية العمل بينها وبين الدين؛ لكم السماء ولنا الأرض. تضمن ذلك خضوع السماء للأرض. والذين يريدون مقارعة الرأسمالية على أساس القيم الاجتماعية التي تبشر بها، سقطوا سقوطاً مريعاً خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانضمام كل الأمم الصاعدة والتي كانت تناضل ضد الامبريالية ومن أجل التحرر الوطني، الى ايديولوجيا الرأسمالية، ولو كانت الدولة المناهضة للرأسمالية تسمي نفسها شيوعية كالصين. لا نستطيع تصنيف الصين إلا على أنها دولة رأسمالية من النوع الرديء بقيادة ستالينية.
نجحت الرأسمالية في أهم منجزاتها، وهي أنها صدرت نفسها لكل البشرية وكأنها طبيعة بشرية ونظاما اجتماعياً وحيداً تتبناه كل دول العالم، بما في ذلك تلك التي كانت تناضل ضد الامبريالية ومن أجل التحرر الوطني. وعندما طرحت النيوليبرالية والخصخصة وتخلي الدولة عن مهامها الكلاسيكية، اعتبر الأمر في كل العالم وكأنه فتح جديد وليس مجرد صعود الرأسمالية الى مرحلة أعلى، تشدد فيها قبضتها على العقل البشري. عمر الرأسمالية لا يزيد عن خمسماية عام. لكنها تبدو في مجال التطوّر أرفع الفصائل الحية في التطوّر والتقدم. كان داروين ليكون فخورا بها. على كل حال، الداروينية الاجتماعية لم تقصّر. جعلوا تطور الطبيعة البشرية ومصيرها هو المال، وهو بيد الرأسمالية. مستقبل البشرية تقرره الرأسمالية وحسب بنظرهم.
لم تسع الرأسمالية لتطوير الصفات البشرية التي تُظهر أجمل ما في الإنسان، بل جعلت دينها وديدنها الربح ولو على حساب البشر الآخرين، وعلى حساب الطبيعة والبيئة وبقية أسلحة الدمار الشامل. وطبعا احتاجت للسلام لحماية نفسها من المنافسين من الدول الأخرى، ولحماية نفسها من الطبقات الدنيا. النموذج الأعلى للرأسمالية الآن هو اختصار الاقتصاد في المال، واختصار البشر في العمل الآلي (الروبوت)، واختصار البيئة في مورد للربح السريع، سواء الغابات فوق الأرض والمناجم تحت الأرض، وما يجري للطبيعة بنشر الدمار خاصة في بلدان العالم الثالث (كان ثالثاً وأصبح عاشرا وأكثر).
أحسنت الرأسمالية بإنتاج التقدم والحداثة. التقدم قاد الى أسلحة الدمار الشامل، والحداثة الى فردية دفعتها الى حدها الأقصى بدل من تحقيق حرية الفرد في وجه العلاقات الاجتماعية الأولية (العائلة، الطائفة، العشيرة)، والفاشية والعنصرية والأصولية الدينية بدل من تحقيق الأخلاق من منطلق فردي، بحيث أن الإنسان لا يعود مضطرا في زمن تقديس حرية الرأي في الغرب الى الانسجام مع ضميره وحسب. صار فردا مقطوع العلاقات الاجتماعية. جرى تذرير الحياة الاجتماعية. أعيد تشكيل الفرد عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وعن طريق دفق معلومات هائل يطوش الإنسان تحت عبئها، ويفقد أي رغبة في السعي نحو الفهم والإدراك. هو إنسان آلي. يُصنع في المراكز الأساسية لمنصات وسائل التواصل الاجتماعية. مع احتمال ضياع فرص الإنسان لنيل الفهم والإدراك بفقد ملكة التهذيب. يفقد الإخلاص. يفقد الضمير الفردي ماهيته، إذ لا يعود مرجعا للفرد في ذات الفرد، بل وعيا يتكوّن خارج الفرد ويُزرع في دماغه. الفرد يعيش من يوم ليوم. يغرق في تشاؤم سببه قلق دائم من كثرة الديون، واعتماده على خارج مالي مصرفي لا على عمله وقوة عمله وقدرته على التفكير. لم يعد الفرد، بل لم يعد المجتمع، لازما للإنتاج، فالمكننة حلت مكان القوى العاملة. أما ما يحتاج الى العمل اليدوي والفكري فقد أحيل الى بلدان الاستبداد الذي يكفل خفض أسعار اليد العاملة، والتفكير انحصر في مؤسسات فكرية (Think Tanks) تقوم بالمهام الفكرية عن الناس. لا يحتاج الإنسان الى التفكير والى الذاكرة. كل معرفة موجودة على الآلة الالكترونية التي يحملها. ذاكرته هي الهاتف الذكي وما يشابهه؛ معرفته معلبة؛ وعيه ملك لمن يملك منصات التواصل الاجتماعي. وهذه تنتج أسوأ أنواع الفاشية والعنصرية والأصولية الدينية وبقية الايديولوجيات التي تمزّق العلاقات الاجتماعية وتحيل الفرد الى روبوت بشري يسيره قلة ممن يملكون وسائل توجيهه. فرد يعتبر أن تفاعله مع الهاتف الآلي كاف لتغيير البشرية. ما يفترضه الإنسان يحل مكان الحقيقة الواقعية. تجاوزوا الحقيقة الافتراضية الى الواقع الافتراضي أو الواقع البديل افتراضيا.
قمة نجاح الرأسمالية هي الحداثة. قمة الحداثة هي الفردية المطلقة؛ الإنسان الفرد المنقطع الصلات، الذي لا تهمه العلاقات الاجتماعية إلا بما يزيد فرص الاستمتاع لديه والترقية في الوظيفة، ليحصل على أكبر كمية من المال. هو دافع الضرائب الحقيقي. الأغنياء جدا يجدون منافذ في القانون للتهرب منها، والفقراء لا يملكون وليس لهم مداخيل يدفعون منها.
تعودنا على القول بسقوط الرأسمالية. الذين يقولون بسقوطها تحت ضربات أعدائها أحدثوا تجربة الاتحاد السوفياتي. وكانت تجربة مخيبة. سقطت التجربة سقوطا مريعاً دون مشاكل أمنية كبرى. هل يبدو أن الرأسمالية سوف تسقط بفعل تناقضاتها الداخلية؟ والسؤال الذي يلي هو هل ستسقط دون أن تجر البشرية معها الى الدمار، والحضارة الى السقوط؟ أم هل سوف تسقط الراسمالية ويبقى الرأسماليون مع فناء عدد كبير من البشرية؟ فناء البشرية أمر تبشّر به الكورونا وحروب الإبادة. الفقر المدقع أيضا حرب إبادة جماعية. هل يعتقد الأغنياء جداً بإمكانهم العيش في جماعة مسوّرة أو خارج فضاء الأرض؟ لا بدّ وأن خيالهم جامح. سيكون العيش في مركبات فضائية الحد الأقصى لتطوّر الفردية. ماذا تنفعهم ثرواتهم إذا بقوا هناك؟
ما له بداية له نهاية. بدأت الرأسمالية في عصر معين ولم تنته بعد، بل تحرز الانتصارات. لكنها سوف تنتهي في عصر معين وتحت شروط معينة. المهم أن أساطين العلم والتنبؤات الكونية يعلمون متى سيكون السقوط وكيف سيكون. لكن ما أحدثته الرأسمالية من خراب ودمار للبيئة، وما أحدثته من إمكانية تدمير البشرية بأسلحة التدمير الشامل، وما قامت به بعض أطرافها من حروب إبادة بشرية جماعية (الشعوب بأكملها)، وما تحدثه من إفقار لمعظم البشرية كي تفقد هذه عزمها وقواها وحيلها على المقاومة، كل ذلك ينذر بأن سقوط الرأسمالية سيكون متزامنا مع سقوط البشرية. سوف تسقط الرأسمالية وتجر البشرية معها. فهل سيكون هناك برامج حكومية للإنقاذ كما كان الأمر في أزمة 2008. الطبيعة ليست منبعا دائما للمواد الخام (خاصة الطاقة) غير القابلة للتجدد. الطبيعة غير قابلة لامتصاص كميات لا متناهية من تلويث الجو بالغازات السامة التي صارت تهدد بالاحتباس الحراري. البيئة غير قابلة لكل هذا الخلل في التوازن الناتج عن استخدام غير عقلاني في الصناعة والزراعة لموارد الأرض. المصير البشري لا يتوافق مع بقاء هذا الكم الهائل من أسلحة الدمار الشامل، سواء كان نوويا أو كيماويا أو غير ذلك. البشرية غير قابلة للتقدم مع هذا الضخ الهائل على وسائل التواصل لهذه الرسائل التحريضية باتجاه الأصولية الدينية والفاشية والعنصرية. استدامة البشرية مرهونة بالتهذيب، ولو كان تقليديا. فقدان التهذيب يعني شيوع الوحشية؛ وهي كذلك. تبدأ الوحشية بالفرد الذي لا يحترم أي شيء مما يقوله أو يعتبر به الشخص الآخر. الفاشية والأصولية والعنصرية هي أشكال من عدم قبول الغير لأسباب دينية أو لأسباب تتعلّق بالمظهر أو لأسباب ايديولوجية. جعل المال قيمة وحيدة في حياة الإنسان يعني تدمير كل القيم الآخرى. وهي القيم الإنسانية. جعل الفرد هو المرجع الوحيد منسلخا عن كل العلاقات البشرية يجعل منه مسخاً. قصص حي يقظان عن الفرد المرمي على جزيرة هي قصص عن فرد يتعلّم، وكيف يتعلّم بمفرده. حالتنا مع الفرد الراهن في عالمنا المعاصر هي حالة الفرد الذي ينتزع منه تهذيبه وعلمه ومعرفته. الفترة التاريخية الماضية كانت مرحلة تطوّر الإنسان من الوحشية الى الإنسانية؛ المرحلة الراهنة هي تطوّر الفرد اللاخلاقي، الفرد المجرد، بالأحرى تراجعه الى الوحشية. المنافسة بين البشر ليست مجرد تسابق نحو الربح من جراء صناعة أو زراعة أو بيع سلع متشابهة، بل هي شركات كبرى لا تتنافس بل تتآمر على البشرية كي تسلخها وتنهبها وتفرغ جيوبها، سواء بواسطة حروب إبادة أو بإفقار حتى الموت أو بالإصابة بأمراض الفناء. ازدهرت الرأسمالية حتى بلغت حدها الأقصى وصارت تعتبر أنه يحق لها التحكم بالبشرية. لا التعامل مع البشر كما هو عددهم، بل بالتعامل مع أعداد من البشرية تقررها مسبقاً. التطوّر الطبيعي لعدد سكان الأرض مرفوض. بشر لا يلزمون سوى للخدمة المنزلية والوظائف الكتبية لضبط الحسابات. أما الاقتصاد الطبيعي السلعي فهو يندفع الى وضع ثانوي، إذ هو يحتاج الى مستهلكين أي الى بشر ينتجون ويستهلكون لإنتاج ربح رأسمالي. الرأسمال المالي لا يحتاج إلا الى أعداد قليلة من البشر الذين يعملون في أماكن معزولة محدودة.
مع وصول الرأسمالية الى قمة تطوّرها، وصلت الى قمة التناقضات بين اقتصاد المال والاقتصاد الطبيعي؛ فهل سيكون تدميرها سببه شدة تناقضاتها وعمقها وتعقيدها؟ تقول منظمات الأمم المتحدة أن اختلال البيئة وتكاثر أسباب الدمار الشامل يسببهما النشاط الإنساني؛ مشاكل الطبيعة سببها الإنسان. بشكل أو بآخر، ليست الطبيعة هي ما يصنع الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع الطبيعة. تعبير “إنسان” هنا معناه النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي للإنسان، وهو ما يصنع الإنسان والطبيعة. يُصنع الإنسان بسلب إرادة الخير والتعاون منه لصالح فردية مطلقة مجردة، تخضع لقيم غير إنسانية. نظام يحدث اختلالات عديدة في الطبيعة، بحيث تصبح أقل قدرة على استيعاب أعداد كافية من الناس. لا يدان الناس على نظام هم فيه. نظام مفروض عليهم؛ بل يدان النظام الرأسمالي الاجتماعي. ما أسرع الرأسمالية الى إدانة الإنسان. بنظرها الوجود الإنساني هو الخطر. أليست هي جزء من هذا الوجود؟ لكنها تريد وجودا إنسانيا مكرسا لها؛ للطبقة العليا. وإذا كان غير ذلك فهذا الوجود هو ما لا يلزم لها. وما لا يلزم لها تعتبره لا يلزم بالمطلق. رأسمال المال متوحش. لا قيمة فيها إلا للمال. عندما يصير المال هو القيمة الوحيدة التي يسعى إليها البشر، يصير خطرا على الإنسانية بما تعنيه من وجود بشري، وبما تعنيه من قيم أخلاقية.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق