اتصلت بي على الهاتف النقال. اعتذرت عن المفاجأة وسألت إن كان في وقتي المزدحم حسب معلوماتها استراحة تسمح لها بزيارتي. تحدد الموعد ليكون في مساء اليوم التالي ويكون مفتوحا حسب طلبها. تمنت في نهاية الحديث أن يكون اللقاء محصنا ضد زيارات أو انشغالات غير محسوبة، معربة عن ثقتها في أن تكون ذاكرتي لا تزال جيدة وأنني لم أنسِ المرحلة التي عملت فيها هي ورفيق عمرها معي في المؤسسة التي تولت تدريبهما مع آخرين في مثل عمرهما وتخصصهما.
•••
أنهيت المكالمة والتفت إلى المساعدة التي تصادف وجودها في غرفتي لأطلب منها التحضير للزيارة. عشاء خفيف ومشروبات مناسبة وأوامر إضافية لترتيب المكان وتنظيفه بعد يوم نعلم كلانا أنه سيكون حافلا باجتماعات عمل ومؤتمرات ودورات تدريب. رأيت في عينيها فضولا لا أستغرب حضوره في مثل هذه الظروف، ظروف اتصال غامض ليس عن طريقها ونبرة في صوتي غير النبرة التي تعودت على سماعها في ظروفنا العادية. توقعت أن تسأل وسألت. حجتها في السؤال تسديد البيانات الضرورية عن الزيارة. لم تحصل، كالعادة، على كل ما يشبع فضولها الذي تراه مبررا بحكم موقعها وتاريخها ومسئولياتها، وبحكم ما تعتقد أنه يعكس طبيعة العمل المتشعب الاختصاصات والمتعدد الأفراد والمتداخل في كثير من حالاته بين العام والخاص وبين الماضي والحاضر وبين الواقع والخيال.
•••
رحت أجيب عن بعض أهم أسئلتها، وفي الحقيقة وجدت في الإجابة فرصة لأستعيد أكبر حصة ممكنة في رصيد ذكرياتي عن الضيفة التي تقرر أن نستقبلها مساء اليوم التالي. كان الرصيد يسمح، إذ كانت الفترة التي أطلت علينا منها الضيفة على مؤسستنا غنية بالأشخاص وبخاصة بالشباب كما بالأحداث الكبيرة والصغيرة على حد سواء. من ناحية أخرى استحقت الضيفة أن تكون بالفعل نموذجا أثرى لحظة من أهم لحظات حياة أكثر من إنسان عاش معنا تجربة بناء صرح ثقافي وإعلامي مختلف. جاءت إجاباتي كطبيعتها عندي مبتسرة وإن حاولت أن تؤدي الغرض وهو أن أستعيد بعض الذاكرة وأشبع بعض الفضول.
أذكرها بين متدربات ومتدربين في المؤسسة التي أدرت أمورها لمدة غير قصيرة. كانت طموحة ورشيقة وغنية بالأفكار وصغيرة في العمر وكبيرة في العقل وجميلة في الملامح وهادئة الطباع وأنيقة المظهر في تواضع وبساطة. أتحدث هنا عنهما، كل على حدة وكلاهما معا. صفات اجتمعتا فيهما هي والمؤسسة. أذكرها تمشي في غرفها تعدل من وضع لوحة معلقة على حائط ثم تقف أمام مرآة لتعيد خصلة من شعرها خرجت عن السياق. تمر على مكتب زميلة بدت لها مكتئبة فتسحب مقعدا وتجلس إلى جانبها لا تغادر إلا وقد عادت كل الأسارير إلى بهجة محببة. تتسحب من جلسات التدريب وتتسلل إلى المطبخ لتعود بصينية عليها كؤوس شاي بعدد المتدربين وأستاذتهم، كؤوس تزين هاماتها حبتان أو ثلاث من الصنوبر استحضرته خصيصا للمؤسسة في زيارة لها إلى أبوظبي.
•••
أذكرها وقد وقعت في حب متدرب يكبرها بعامين أو أكثر قليلا. لم يكن في الأمر مفاجأة لي. قضيت مدة غير قصيرة منذ انضمام هذا المتدرب إلى هذه الدورة التدريبية أراقب إعجاب معظم المتدربات أو انبهارهن به. كثيرات سعين إليه وقليلات امتنعن خجلا أمام فصل متربص أو تعالي على سلوكيات التجمهر من جانب الزميلات. من بينهم، وأقصد من بين القلة الرافضة للاشتراك في تكالب على زميل بعينه كانت هذه المتدربة التي هي اليوم ضيفتنا. راقبتها تقترب منه وتبتعد عنه بحساب دقيق. خيل لي أكثر من مرة أنها اقتربت ببطء حتى لمسته وابتعدت بسرعة أملا في أن تكون اللمسة فاتت عليه فلم يشعر بها ويصير من حقها أن تعيد الكرة. لم يصدر عنه مرة واحدة رد فعل يسمح لمن اقتربت حتى لمست مجرد الظن أنه استلم رسالة حملتها اللمسة.
جاءت إلى مكتبي في نهاية يوم تدريب، استأذنت في الدخول فأذنت. جلست ولم تتكلم على الفور. بدت للحظات مترددة كما لو كانت في حاجة لتشجيع. عرضت عليها أن أطلب لها مشروبا باردا وفي الوقت نفسه بدأت أتكلم عن حفل أنوي إقامته على شرف المتدربين والمتدربات والمدربين والمدربات. وانتهزت الفرصة لأصرح بما كنت أخفيه وهو أنني سوف أطلب منها إلقاء كلمة بالنيابة عن زملائها وزميلاتها. يبدو أنها تشجعت إذ رأيتها تنتقل من مكانها لتجلس في مكان آخر يسمح لها بزاوية أفضل للرؤية. هناك استجمعت شجاعتها وقالت: “اسمحلي أولا أن أناديك بصديقي وليس بأستاذي. أعرف أنني بهذا الطلب أتجاوز حقوقي واختصر زمانا وتجارب وأفاقا تفصل بيننا، ولكني أعرف أنك لن تمانع فهذه من بعض طباعك التي استحسنها. تشربنا كثيرا منها حتى صرت أنا شخصيا أرجع أمام أمي أفضل خصالي الجديدة التي أعجبتها إلى ما استحسنت من طباعك وما تشربت.
•••
صديقي وأستاذي، أنا هنا الآن لأطلب منك الرأي في اختيار أتجاسر وأطرحه أمامك. أريدك تساعدني في أن يتقدم زميلنا، أحمد، لخطبتي من أهلي. أعلم يقينا أنك معجب بما حقق من إنجاز في هذه الدورة ومعجب بأخلاقه وأساليبه في التعامل مع أقرانه. أنا أيضا معجبة به في كل ما أنت معجب به، ولكني معجبة أيضا إعجاب امرأة خبرتها في هذه الأمور ضئيلة وإن كانت غنية بشاب لا يعرف عن الحب إلا القليل، وربما القليل جدا. استبق سؤالك فأجيب، نعم يا صديقي أنا قادرة على أن أقوده على هذا الطريق الوعر والممتع في آن، طريق الحب. استبق سؤالا آخر فأجيب، نعم يا سيدي، أنا أحبه كل الحب الممكن بل وأكثر. أحب صفاته، كافة صفاته. لا أتصور أن إنسانا قابلت أو نهض بي في طفولتي ومراهقتي وشبابي امتلك هذه الصفات مكتملة كما هي مكتملة عند هذا الشاب.
أستاذي، أشعر في داخلي أنك لن تغضب إذا تهورت في حضرتك فقلت أنني لن أترك، أحمد، لغيري. أحبه كما لم أحب في حياتي. أعرف أنه لا يحبني بالقدر نفسه. أنا أروق له وهذا يكفيني في هذه المرحلة. أحبه، وأعدك وعدا صادقا وحازما بأنني لن أحب غيره مهما طال بنا الزمن. أنا الآن في انتظار رأيك وقرارك”.
•••
….مساء اليوم التالي
استقبلتها وكانت كما كنت أعرف عنها دقيقة في التزام مواعيدها حتى استحقت احترام نظرائها ورؤسائها. “أنا هنا اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، لأبلغك بأنني احترمت وعدي لك بأنني سوف أحب أحمد طالما استمر يجري في عروقي دم أحمر. طبعا أنت سعيد لالتزامي بالوعد. أنا مدينة لك بالسعادة التي عشت كل هذه السنوات أرفل في ظلالها والفضل لك منذ اللحظة التي استجاب، أحمد، لحثك إياه على طلب يدي من أهلي.
من حقك الآن أن تعرف أيضا أنه بعد مرور سنة على زواجنا اختار، أحمد، أن يطلب مني أن تتحول علاقتنا إلى صداقة، وأن نتعهد بأن لا ندع هذا القرار يؤثر على زواجنا وحبنا لبعضنا. قبلت يا أستاذي بدون تردد وها نحن بعد هذا العمر الطويل نعيش زواجا مستقرا. تغيرت تفاصيل وعلاقات، وتطورت أفكار وسلوكيات، وبقي الحب وبقي الرجل الذي تزوجني نموذجا لكل ما هو طيب وكريم ودافئ في خصال من عرفت من الرجال.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق