قرأنا لصاحب »السفير« بتاريخ 29 تشرين الأول تحت عنوان: الايمان بألفية بن مالك والكفر لنصر حامد أبو زيد.
قرأنا قصة وأسئلة كبيرة استوقفتنا وأثارت فضولنا برغم انها ليست بالجديدة بل لأهميتها ولأنها تستحق الطرح. ونعتقد ان من حق الاسلام إثارتها والإجابة عليها:
»من هو المخوّل بأن يقرر اسلام المسلم من هو المؤهل والمفوض في إعطاء شهادات الإيمان للمؤمنين وفي فرز المرتدين والكافرين والمشركين، ما دامت العقيدة تتخطى الطقوس وتتجاوز الشكليات؟«…
دون تردد نقول ان هناك إثنين فقط لهما الحق في تقرير إسلام المسلم او عدمه. أولا: الله سبحانه تعالى وهذا ما لا يحتاج الى كلام، وثانيا: الشخص عينه. فالإسلام لم يشرع طقوسا شكلية يحكم من خلالها بإسلام المرء او العكس.
كل ما في الأمر ان يعلن الشخص إيمانه واعتقاده بعقائد هذا الدين وبذلك يصير مسلما له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ويخرج المرء من الاسلام بإعلانه ارتداده عن العقيدة او اعتقاده بما يخالفها او ان يُكذب ما يعلم ضرورة انه من الدين بنحو يرجع تكذيبه الى الرسالة والرسول(ص).
خلاصة القول ان الامر يكاد يكون بمجمله بيد الشخص المعني مباشرة، فليس في الاسلام رجال دين خُوّلوا الإدخال والإخراج الى دين الله ومنه. نعم في الاسلام علماء أُمر الناس باللجوء اليهم ليبينوا لهم بياض الحق من سواد الباطل وما خفي عن العوام من أحكام الشرع الحنيف وهم المعنيون بقول الله تعالى »فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون«. وأهل الذكر هم العلماء والرجوع إليهم والأخذ برأيهم أمر يقرّه العقل والنقل، فلا يُعقل ان يكون رجوع الناس الى اصحاب الاختصاص في مختلف شؤون دنياهم أمرا محمودا ورجوعهم الى علماء الدين في دينهم أمرا مذموما.
وكما من الطبيعي اعتبار كل صاحب اختصاص أولى وأكثر حرصا على اختصاصه من الدخلاء والجهلاء به كذلك من الطبيعي إعطاء المزية نفسها لعلماء الدين بل من الغريب جدا سلب هذا الحق عنهم. اما فرز الناس الى مؤمنين ومرتدين وغير ذلك فهذا بيد الناس أنفسهم وليس لعلماء الدين الحكم على اكثر من الظاهر، والحكم على الظاهر سيرة عقلاء كل زمان ومكان، فمن أظهر الاسلام فهو مسلم ولو أبى كل العلماء ومن أظهر الكفر بقوله او فعله فهو كافر ولو سكت ايضا كل العلماء. اما ما خفي عن الظاهر فهو ملك الله وحده.
ليس في الاسلام صكوك غفران
وعليه لو أعلن أحد ما يخالف العقيدة فالأحق باللوم هو الشخص ذاته وليس الاسلام او علماؤه.
نقول هذا ونحن لا نقصد دفاعا عن شخص او تعريضا بآخر. ونزيد بأن ليس في الاسلام صكوك غفران ولا شرطة سرية قادرة على اقتحام وجدان اي انسان او تضييق او توسيع ملكوت الله الذي وسعت رحمته كل شيء. لكن الدين ليس مجرد كمّ من الموروثات عن الأهل والبيئة بل الدين فكر وعقيدة واحكام، والعارفون به كثر وأجلاء لا تنقصهم المعرفة والموضوعية لذا من الأجدر والاحرى لمن أراد الغوص والتناول منه ان يتواضع قبلا ويسأل العارفين به كم الحال في كل علم ورحم الله عبدا عرف حدّه فوقف عنده. وبالعودة الى القصة المنقولة رواية عن »نصر حامد« فاننا ابتداء سنسلّم بصحتها دون نقاش، ونقول ان الاسلام كما نفهمه لا يقبل بالقهر من أي كان ولأي كان ويكفي قوله تعالى »من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر« »لست عليهم بمسيطر« للدلالة على ذلك وهذا بشكل عام حيث إننا لسنا في مورد التفصيل. اما فيما خصّ الأطفال فاننا قرأنا في النصوص الشريفة ان الطفولة ومتعها حق لكل كائن بشري وليست منحة من الأهل لأطفالهم ولعل أبلغ ما ورد في هذا المجال ما روي عن الرسول الأكرم(ص) مخاطبا الآباء (لا تقهروا أولادكم فانهم خلقوا لزمن غير زمنكم) (أتركه سبعا وأدّبه سبعا وصاحبه سبعا) حيث جعل السنوات السبع الاولى سنوات عبث طفولي لا بد منها في تكوين بنية الطفل النفسية ومن أراد المزيد قد يجد عشرات او مئات النصوص الاسلامية التي تصب في خانة احترام الطفولة ورعاية حقوقها. نعم بقدر ما أعطى الاسلام للطفل أعطى للأب حق التأديب بل ألزمه بذلك ولا نظن احدا يناقش في هذا او يمانع بل الأقرب اعتباره من أسس حقوق العقيدة والمجتمع وحتى الطفل ذاته على كل أب.
ونعود الى مفردات القصة التي اعتبرت ضمنا ان حفظ ابن الخمس سنوات للقرآن والحديث وألفية إبن مالك غاية القهر. ولنضعها معاً تحت المجهر ولنتساءل هل القدرات الذهنية المألوفة لأبناء هذا العمر تتقبل هذا القدر من المعلومات وهل ذاكرة ابن الخمس تستوعب هذه الكمية من المحفوظات؟ وإن كان الجواب الطبيعي للأعم الأغلب بالنفي نتساءل من جديد هل القهر يوّلد اتساعا للذاكرة على هذا النحو؟ والجواب الذي نعتقده هو النفي ايضا، بل الظن ان النتيجة قد تكون معكوسة.
لكن ألا نذكر إعجابنا بذاك الطفل ابن التسع الذي استقبلته أشهر الجامعات باعتزاز بعد ان تأكد نبوغه المبكر وتفوقه على أقرانه. بل تجدّد إعجابنا كلما ذكر الإعلام حالة مشابهة وكنا دوما نضع هذه الحالات تحت عناوين الإعجاز والنبوغ النادر. وعليه لو نظرنا بقدر من التجرد.. (مع افتراض صحة القصة مسبقاً) لذاك الطفل أحمد وقدرته الفائقة على الحفظ وهذا ما تعجز عنه ذاكرة الأكبر سناً في اكثر الاحيان.. لوضعنا هذا الطفل دون تردد في صف النابغين وأشرنا اليه بالأصابع. والا لكان علينا نفي صحة القصة والتشكيك بصدق الراوي والرواية وما تم استنتاجه من القهر للطفولة والقهقرى الفكرية والمسلكية للأب. الا ان يقال ان العلوم الاسلامية والعربية لا تستحق ان تكون مزية للتفوق والتقدير، وان التخلف والرجعية عناوين رديفة لكل ما يرشح عن الاسلام. ولا نظن أحدا يجرؤ على هذا القول والا لفقد الموضوعية في التفكير والتعبير. كما لا نظن احدا يقول ان ناصر حامد أبو زيد صار فوق ان يخطئ لمجرد انه ابتدع او ارتأى وخالف، وخطّأه او انتقده بعض المسلمين او علماؤهم فاننا لم نسمع ان العصمة تتنزل من مخالفة علماء المسلمين. ولا تفوتنا إعادة الإشارة الى ان ما ذكر على لسان الأب مما يفيد رأيه بسلب الطفل حق العبث واللهو الطفولي، ان هذا مسلك يأباه الله ورسوله وقد أوردنا قبلا ما ينص على رأي الاسلام في ذلك.
لماذا يُربط الايمان بالتخلف
ونختم بالجواب على سؤال الكاتب: لماذا يراد ربط الفكر بالكفر والحوار باهتزاز الإيمان؟ فنقول له: ان الفكر ليس مفردا في الذهن او الواقع وليس لأحد ان يختصر الايمان في شخصه ولا ان يعنون كل فكر بعناوين الكفر وما شابه، لكننا نذكر هنا ان الاسلام فكر ايضا بل ندّعي انه أسمى أنواعه وعليه نسأل بدورنا؟ لماذا يراد ربط الاسلام والإيمان به (صراحة او تلميحا) بالرجعية والتأخر وعدم التحضّر، أليس في هذا تجنٍ واضح على الاسلام والمسلمين؟ نعم يوجد بين المسلمين من يستعمل أساليب فظة في التعبير او حتى في التفكير وصولا الى المسلك العنيف في التعاطي مع الآخرين، لكننا نتمنى ان، يتم التعامل مع هؤلاء بأشخاصهم لأنهم حقيقة لا يمثلون اكثر من ذلك مهما ادعوا. وليترك الاسلام وشأنه، هذا الدين الذي كان أول من طرح الحوار مع الآخر ونص على آدابه بقوله تعالى:
»أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة« »وجادلهم بالتي هي أحسن« »ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك« »قل تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم…«.
الشيخ إبراهيم فوّاز
السفير، 10111999