سُئل الرجل الهرم عن أي أولاده أحبهم إليه، فأجاب: مريضهم حتى يشفى، وصغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر. عند العرب فلسطين حتى تشفى من داء الغزو الصهيوني.
كما قيل إن الصهيونية هي الطفل المدلل عند الامبريالية، نقول إن فلسطين هي الطفل المدلل عند العرب بجميع أقطارهم وميولهم. الفرق أن من يُدلّل تلك أغنى وأقوى ممن يُدلّل هذه. قوة إسرائيل نابعة من دعم الغرب لها، وعذابات فلسطين نابعة من دعم العرب لها. الامبريالية تتبنى إسرائيل بالمال والسلاح والعديد إذا احتاجت، ويتبنى فلسطين العرب بالكلام والنفاق؛ الكلام مصدره الشعوب إذ ليس عندهم غيره. فقد سلبتهم أنظمتهم أسباب القوة، وكل شيء تقريبا، حتى القدرة على الكلام الصادق؛ والنفاق سمة الأنظمة العربية التي تظهر لشعوبها غير ما تستبطنه لإسرائيل. فهي وإن كانت مستبدة إلا أنها تخاف من شعوبها. لذلك فإن لها وجهين، لكن حقيقة أمرها أنها في صف واحد مع الامبريالية وإسرائيل ضد الشعوب العربية. هي تفهم وجدان شعوبها، والغرب الامبريالي يتجاهل هذا الوجدان. هي لا تكون امبريالية إن فهمت الشعوب المغلوبة، وعملت بما يمليه عليها ذلك.
بعد وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى الذي أعطى فلسطين للصهيونية، احتفظ بها الانجليز وديعة كي يسلموها لهم، ويجلبوا إليها ما تيسر من يهود العالم. وحدث ما حدث خلال القرن العشرين من استقدام اليهود الى فلسطين واقتلاع شعبها. ونفذت إسرائيل حرب الإبادة بتشريدهم المرة بعد الأخرى. فأكثرهم إما نازحون أو مشردون في أراض عربية، في مخيمات صارت على مر السنين “مدن تنك”؛ هذا غير ما شرد في أرض الشتات حول العالم. كان يمكن أن تبقى أرضاً ذات مقدسات كثيرة لكل الأديان السماوية، لكن الكولونيالية الغربية، ومن ضمنها الصهيونية، شاءت طرد سكانها (أو معظمهم) ومصادرة أملاكهم. وشاءت هذه الكولونيالية أن تعلن دولة إسرائيل بينما كانت البلدان العربية معظمها نصف مستعمر ونصف فاقد السيادة، حيث تدار أمورها على أيدي الذين شاؤوا لليهود الصهاينة إنشاء دولتهم. ما سُمي استقلال إسرائيل لم يحدث دون قرار وتشجيع ودعم من دول الامبريالية، بنظام سياسي على شاكلتهم. أما البلدان العربية، فمنهم من حقق استقلاله المزعوم بعد نضال تحرر وطني، وعلى غير شاكلة الغرب، بسيادة منقوصة أو مفقودة، واستبداد يحكم في كل مكان من الأرض العربية، وتبعية مقنعة للامبريالية، ونهب امبريالي تكون فيه الرأسمالية المحلية شريكاً صغيراً.
في كل مرة تحاول الشعوب العربية (كما ثورة 2011) تحقيق استقلال حقيقي، تشن إسرائيل حرباً لذبح وإبادة الفلسطينيين تدريجياً، وإنهاك العرب وجعل رؤوسهم تدور من صفعات الحروب، فتتوقف الرؤوس عن التفكير، ويعتقد العرب أنهم غير الشعوب الأخرى بسبب الفشل العسكري والثقافي والسياسي. حتى صاروا يعتبرون وكأن العجز جزء من طبيعتهم. وما التطبيع الذي انتهجته بعض “دول” العرب إلا بداية إقرار بهذه الطبيعة التي تبدو وراثية. عندما يكون الأمر كذلك، أو بالأحرى يتوهم أصحابه أنهم كذلك، فلا تفيد جميع وصفات النهوض، سواء كان ذلك ثقافياً أو سياسياً أو عسكرياً.
صار العرب يعتبرون فلسطين كفكرة وجود أعز ما عندهم، وحولها تدور جميع قضاياهم. فلسطين التي أصابتها الصهيونية صارت موطن الداء، وكل من يتصدى للداء يستطيع أن يصير قبلة الأنظار، بمثابة الطبيب المداوي. وسميت المعالجة مقاومة، وما تيسر لها من سلاح (لا يمكن أن يتحقق بواسطته الانتصار والتحرير) هو الدواء. وكثرت التعويذات وتعدد المتصدون للمداواة.
اختلفت الأنظمة الحاكمة في ما بينها، وهي بالأساس وُجِدت لكي تختلف. وعلى العموم، اختلف المتصدون للمداواة في ما بينهم. وهم الذين كانوا يفترض أن يبذلوا الجهد من أجل تفكير منسق وعقلاني بارد. فُقد العقل العربي (إن كان هذا ما تصح به التسمية)، وبقيت الروح على حماوتها، وصارت اللهفة من أجل الدواء تجعل الشعوب العربية تقاد وراء كل من يتصدى للمداواة، وصاحب الداء متقبلاً كل دواء حتى لو كان أي سائل مائي في قارورة.
وفي خضم كل ذلك، الداء مستعصٍ يرفض التعايش معه أو الاعتراف به أو التطبيع قبولاً به. فهو يريد أن يكون داءً في قلب الجسد، مرفوضاً يفرض وجوده. داء لا دواء له كالسرطان، لا يفنى إلا بفناء الجسد.. وجود إسرائيل هو من فناء، أو إفناء، العرب. حتى الآن لم يستطع الأطباء المداوون إيجاد دواء لهذا الداء.
فلسطين في الوجدان العربي أولوية لا ثانية لها. لا تتنازل الامبريالية الغربية عن عليائها للإقرار بذلك، أو هي لا تريد ذلك لكي يبقى الجسد مصاباً بالداء، وهو هذه الصهيونية. فلسطين في حنايا الروح العربية، وهي مصابة بهذا الداء.
فلسطين في الوجدان العربي ذات مكانة لا تتعلّق بأسباب ذرائعية؛ هوية تتساوى مع الانتماء العربي والانتماء القطري. الانتماء القطري ضرورة تتعلّق بالدولة. والانتماء العربي لضرورات اللغة التي لا يكون التواصل إلا بواسطتها؛ والانتماء الفلسطيني لضرورات العدالة والأخلاق؛ وفي أعماق الذات العربية شعور بخلل إن لم تعد فلسطين عربية تتكلم لغتها. لا تتحقق العدالة على الأرض إلا بذلك؛ هذا الجرح عميق والشعور بالظلم أعمق. يمتد هذا الشعور من أقصى المغرب الى أقصى المشرق. هي قلب هذه الأمة، والجسد يصاب بالسقم إذا كان القلب مصاباً. لا يحتاج العربي أن يعلّم أولاده هذا الأمر فهو أشبه بالفطرة. بالعكس، تتمنى الأنظمة العربية لو تنسى شعوبها قضية فلسطين كي تتحلل هي من واجباتها. يُخطئ من يقول إن فلسطين جوهر القضية العربية. هي قضية واحدة ذات فروع ثلاثة: الدولة القطرية، والعروبة، وفلسطين.
لن يستطيع العربي التعايش في نظام عالمي لا يأخذ احتلال فلسطين بالاعتبار. ربما أدى ذلك الى نتائج وخيمة عالمياً وعربياً، لكن هذا الوضع يمنع على العربي سويته السياسية والأخلاقية. لذلك ليس غريبا أن تشن إسرائيل كل بضع سنوات حرباً على فلسطين لتذكير العرب بخلل علاقتهم بالعالم الذي ربما كان فيه مواضع كثيرة شبيهة بوضع فلسطين، إلا أن العرب يعتبرونها قضية فريدة من نوعها.
لا يضيق ذرع العرب ببضعة ملايين إضافية في أرضهم، سواء كانوا يهوداً أو غيرهم، لكنهم بالتأكيد يضيقون ذرعا بقضية فلسطين.
في الوطن العربي أقليات كثيرة، إثنية، دينية، مذهبية، وقومية، يتعايش معها العرب في كل قطر بهذا الشكل أو ذاك. ومن حق كل الأقليات أن يكون لها صوت ومشاركة كما ترى هي، لا كما ترى الأكثرية العربية. والعلاقات تنحل بالسياسة والاعتراف المتبادل، شرط أن تكون الدولة، وهي عادة قطرية، هي الأساس في كل ذلك. لكن ما جرى في فلسطين أمر مغاير. إذ لا يعترف الصهاينة اليهود بالعرب وجوداً وحقاً. الأقليات عادة تسعى في سبيل حقوقها. أما في فلسطين، فالصهيونية تنكر حق العرب، وليس الكتاب المقدس سجلاً عقارياً كي يزعم الصهاينة أن الأرض موعودة لليهود دون غيرهم. من الغريب، كما قال أحد كبار المثقفين اليهود، أن هؤلاء في معظمهم غير مؤمنين دينياً ولا يهمهم كتابهم المقدس، لكنهم يؤمنون أن الأرض موعودة لهم.
الأمر ليس دينياً، وإن زعم البعض ذلك، لكن سياسات الامبريالية العالمية أرادت أن يكون للعرب جرح عميق لا شفاء منه.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق