تشير الصعوبة التي ترافق أية محاولة لتغيير الواقع السياسي، عبر إسقاط هذا النظام الفاسد أو ذاك، وبالثورة الشعبية المبرأة من أي تدخل خارجي، وأية مطامع وأغراض لأشخاص او جهات او حتى لأحزاب سياسية محلية، إلى أن “الثورة” قد ادرجت في قائمة المحرمات، وبالتالي بات يلتقي على محاربتها كل اصحاب السلطة ومعهم رجال المال والاعمال، ومن يساندهم من قوى التدخل الاجنبي (والاسرائيلي) وإن ظلت الواجهة عربية.
وما يشهده السودان، هذه الأيام، والجزائر، ولو بنسبة أقل، يدل انه بات للتدخل الاجنبي “وكلاء عرب”، يتولون نيابة عنه تكاليف الاعداد والتنفيذ من رشوة للضباط وتعهدات بمساندتهم في بناء البلاد وتعزيز قدراتها الخ..
ها هي الثورة الشعبية الرائعة في السودان تُذبح امام العيون، ويتحول الجيش الذي كان سنداً للطاغية عمر البشير، إلى عدو مبين لجماهير الشعب السوداني الطيب والصادق والصابر طويلاً على “ظلم ذوي القربى”..
ولقد بادرت بعض دول النفط العربية إلى محاولة رشوة الثوار بذريعة دعم الاقتصاد الوطني في السودان بثلاثين من الفضة، ثم أكملت القمم العربية الثلاث شراء كبار بعض الضباط في الجيش السوداني، ممن احتلوا “تمثيل” السودان، المرابط شعبه في الشوارع والميادين بسلمية مطلقة ومن دون رغبة او مظهر من مظاهر الميل للعنف، او التقدم نحو المواقع العسكرية، وبالذات منها قيادة الجيش ورئاسة الاركان، بقصد التصادم معها او اجلائها عن “مراكز سيطرتها”.
هكذا انقلبت القوى العسكرية من واجبها حماية الثكنات إلى مطاردة المعتصمين في الشوارع والميادين، بالرصاص الحي، بعد أن “تعبت” الهراوات والعصي من ضرب المليون متظاهر الذين يجوبون الشوارع في تظاهرات سلمية منذ شهرين او يزيد.
سقط عشرات القتلى (أكثر من مائة) وجرح مئات من المتظاهرين الذين لم يرشقوا العسكر بوردة، وكانوا يكتفون بالمرابطة في الشوارع وقد رفعوا لافتات المناداة بسلمية الثورة تعبيراً عن إرادة التغيير.
ومن اسف فان بعض الدول الاجنبية هي التي استنكرت او احتجت، ولو بصوت خافت، بينما دول النفط اظهرت الابتهاج ووعدت الانقلابيين بمساندتهم بعد الدعم المفتوح.. بل لعلها اكملت بعد قمم مكة ما كانت قد باشرته قبلها من اسباب الرشوة لشراء الثورة بتشجيع الجيش على قمعها.
أمر العمليات واضح ومحدد: انتهى زمن الثورات، وأية محاولة للتغيير في أي بلد عربي سوف تتجاوز نظامه فتكشف سائر الانظمة المعادية لطموحات الشعب، واذا نجح تغيير النظام، أي نظام، وبالوسائل السلمية، خصوصاً، في هذه الدولة العربية فان المسلسل لن يتوقف عند حدود هذه الدولة او تلك، لا سيما وان الانظمة القائمة تتشابه إلى حد التطابق، وهي تتساند ـ كل بحسب مقدراتها ـ، والاغنى يتحمل العبء الاكبر في ضرب التغيير فور مباشرته، ودائماً قبل اكتماله..
أما في الجزائر حيث الجيش أعظم خبرة فانه حريص، حتى هذه اللحظة، على ترك الجماهير تتظاهر فتملأ الشوارع داخل العاصمة كما في المدن الأخرى في مختلف انحاء البلاد، فلقد أخلى الجيش قلب المدن مكتفيا بضرب طوق عليها من خارجها، لعله بهذا يستعيد بعض رصيده عند الجزائريين فلا يخسر الدنيا والآخرة.
وللجيش الجزائر تجربة مريرة مع الاسلاميين الذين واجههم وواجهوه، قبل عشرين سنة او يزيد، فلحقت بالجزائر اضرار عظيمة، سواء في عمرانها ام في وحدة شعبها.. بل وحتى بسمعة الثورة الشعبية الرائعة التي اعادت إلى الجزائر هويتها الاصلية واسقطت عنها عار “الفرنسة” التي حقرت هوية شعبها العربي وكلف اسقاطها والتحرر منها أكثر من مليون شهيد.
ويبدو انه يتحاشى اقله حتى هذه اللحظة، التصادم مع هذه الغضبة الشعبية الرائعة التي حرصت على سلميتها، كما أن شبابها وصباياها يقومون بكنس الشوارع بعد انفضاض التظاهرة ليلاً، تمهيداً لان يعودوا اليها في اليوم التالي، او يوم الجمعة التالي، إذا اردوا أن يرتاحوا قليلاً في بيوتهم!
عملية تغيير الانظمة العربية العتيقة والمتجذرة في دوائر السلطة، والتي “تخدم” الفقر والعوز ومهانة اذلال الشعب، باتت عملية شديدة التعقيد، بعدما عززت انظمة الفساد قدراتها المخابراتية ووطدت علاقاتها بالخارج الاميركي “والداخل” العربي ممثلاً بدول النفط والغاز، التي وظفت رساميل محترمة في السودان بل انها اشترت بعض المناطق والاراضي الزراعية الشاسعة.
كذلك فان تركيا، التي تبعد آلاف الأميال عن السودان، قد أقدمت على شراء بعض الشاطئ على البحر الاحمر، لإنشاء قاعدة عسكرية مجهولة الوظيفة والغرض… اللهم الا تعظيم مجد السلطان اردوغان.
ثم أن الانظمة القائمة، ملكية وجمهورية، قد اتقنت لعبة الانقلاب من الداخل: قطر وتجربة شيخها تميم مع والده حمد بن خليفة، وهناك تجربة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان مع عمه الامير مقرن (الذي كان، ذات يوم، ولي عهد الملك سلمان ثم خلع بهدوء.. وبعدها أقدم الامير محمد بن سلمان على خلع ولي العهد الآخر، الامير محمد بن نايف، وهو جاثٍ عند قدميه .. لطلب المعذرة..)
ثم ان الامير محمد بن سلمان أقدم على سابقة مثيرة عندما داهم حرسه بيوت العديد من ابناء عمومته الامراء، وكبار رجال الاعمال الاثرياء في المملكة، واحتجزهم في أفخم فندق في المملكة (فندق ريتز في الرياض) حتى تنازل من تنازل عن بعض ثروته وامواله المنقولة والثابتة كشرط لاستمرار احتجازهم .. في بيوتهم!
بالمقابل شهد العراق ما يمكن تسميته “الانقلاب الابيض”، فتم تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة الجديدة وازاحة رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، الذي كان قد ازاح من قبل رئيس الحكومة الاسبق نوري المالكي، وتمت العمليتان بهدوء ديمقراطي ملفت وجاء إلى السلطة ـ بعد الانتخابات ـ طاقم جديد بأكراده وعربه ـ وتمت ازاحة العهد السابق بعملية تشابه “سباق القمم” .. سلمياً ومن دون اسالة الدماء!
من جهة أخرى، وفي السياق نفسه، قامت جهات يشتبه بانها تتبع ايران، مباشرة او بواسطة اصدقائها من الجماعات المعارضة في اليمن للهيمنة السعودية والاماراتية ومشاركتهما في الحرب المدمرة والطاحنة على اليمن واليمنيين، بتفجيرات عدة داخل السعودية، وبالقرب من منابع النفط ومصفاته، وبعض القواعد العسكرية في دولة الامارات (الشريكة في الحرب على اليمن وابادة شعبه) … وكان منطقيا أن يوجه الاتهام إلى إيران من دون تسميتها في هذه اللحظة الحرجة.
إن الاوضاع العربية، عامة، مهترئة وعفنة.
إن الشعب العربي، في معظم اقطاره غائب، بل مُغيب، عن مركز القرار، الذي غالباً ما ينفرد به ملك او رئيس-ملك مطلق الصلاحية تعاونه حكومة من الأتباع، ومن اجل استكمال الزينة يتم اعتماد مجلس نيابي او مجلس وزاري من الصادقين في ولائهم الذين يعميهم اشراكهم في السلطة، ولو رمزياً وفي “مواقع شرفية” عن مصالح شعبهم وطموحه المشروع إلى غد أفضل.
إن العديد من الانظمة القائمة في مختلف انحاء الوطن العربي يعلوها الصدأ ويقعد بها العجز والاستمتاع بالسلطة عن خدمة مصالح شعبها وتأمين مستقبله وادارة دولته بعيداً عن مناطق النفوذ واملاء الولايات المتحدة، ومعها العدو الاسرائيلي..
بل لقد اسقطت معاني الخيانة والتبعية في هوة الارتهان للأقوى، ونرى رئيس وزراء العدو الاسرائيلي نتنياهو لا يتوقف عن التجول بين العواصم العربية حيث يستقبله الملوك والرؤساء وصولاً إلى السلطان قابوس البعيدة بلاده، سلطنة عمان، عن فلسطين المحتلة مسافة فلكية، والتي لن تفيده العلاقة مع الكيان الاسرائيلي الا في مزيد من البعد عن مصالح بلاده خاصة والبلاد العربية ـ عموماً.
ولسنا نملك الا الرجاء والتمني لمشروع ثورة التغيير في كل من الجزائر والسودان.. لان ذلك حق مشروع للشعبين العربيين فيهما..
والخوف، هذه المرة، ليس من العدو الاسرائيلي.. بل من الاشقاء العرب الذين متى انحرف حكامهم باتوا أخطر من هذا العدو الاسرائيلي.
ينشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية