مرة أخرى يتطلع اللبنانيون إلى نجدة عربية سريعة، وبالتحديد من سوريا والسعودية، تمنع الاشتباك ـ الفتنة عبر خطة مدبرة ومقصودة عنوانها الاستثمار السياسي المتجدد للجريمة التي استهدفت وطنهم الصغير في وحدته باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فما يجري هذه الأيام من لغط وهذر وخفة سياسية وإطلاق اتهامات وفبركة روايات باسم المحكمة الدولية وقرارها «السري» العتيد (الذي لم يُكتب بعد؟!)، ليس أقل من محاولة اغتيال لبنان جميعاً، بوحدة شعبه والفرصة التي تيسرت أخيراً لإعادة بناء دولته… ولو مشوّهة!
الطريف إلى حد الغرابة أن المؤامرة علنية ومباشرة، لا أبطالها يحاولون التستر على استهدافهم المقصود، ولا هم يموّهون غرضهم الذي يدركون أن كلفته أعظم من أن يستطيع دفعها هذا الوطن الصغير: إنهم يستهدفون الإنجاز التاريخي الذي حققه المجاهدون من فتيتهم الأبرار الذين قاوموا كأشرف ما تكون المقاومة ورصعوا جبين أمتهم بنصر غير مسبوق، حين حرّروا أرضهم بلا تنازلات ولا مساومات ولا صفقات سرية على حساب حقوق إخوانهم الفلسطينيين في وطنهم الذي يكاد يضيع أمام عيون العالم جميعاً، أو على حساب إخوانهم السوريين في جولانهم المحتل والذي لا يفتر صموده في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
مرة أخرى، تجري محاولة جديدة أكبر وأخطر، لاغتيال شرف لبنان ـ الوطن وكرامة الأمة جميعاً عبر الاستغلال السياسي للجريمة الأولى ممثلة باغتيال رفيق الحريري.
في هذا السياق، وعلى الهامش، تمّ اغتيال المحكمة الدولية بتصويرها ـ عن سابق تصور وتصميم ـ طرفاً، وتسييسها بإفقادها حصانتها المفترضة عبر الاستغلال العلني والمفتوح لقرارها الذي لما يكتب، وبالتالي لم يعلن، والذي نشأت عليه ومن حوله تجارة مجزية بعنوان التسريبات المقصودة حول المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
نسي تجار الجريمة التي هزت لبنان حتى كادت تدمره، والتي كادت تدفع اللبنانيين إلى حرب عنصرية ضد إخوانهم السوريين الذين تحولوا ـ دولة، برئيسها وجيشها، وشعبها الشقيق ـ إلى «أعداء» أين منهم قادة الاحتلال الإسرائيلي وحماته الدوليون… أنسيَ هؤلاء كل ما أعلنوه بالصوت الحي أو كتابة أو بشهود الزور والروايات المفبركة، وطووا الصفحة، ليكتشفوا «متهماً» جديداً «من أهل البيت»، بل هو الذي حمى هذا البيت وأعاد إليه أرضه المحتلة وكرامة شعبه وإمكان إعادة بناء دولته!
هكذا، فجأة وبلا مقدمات، أسبغوا ثوب البراءة على كل من لعنوهم وشتموهم علناً وأهدروا كراماتهم في الشوارع طوال سنوات وفرضوا الحظر على من يقصد دمشق، ولو للعلاج، وأعدوا القوائم السوداء بمن يخرق «مقاطعة سوريا»، وذهبوا إليهم معتذرين…
ولقد تناسى اللبنانيون أخطاء، بل خطايا من وقفوا في الساحات وعلى المنابر وخلف الشاشات يؤكدون ويقسمون جازمين أن معلوماتهم عن التورط السوري دقيقة جداً، وكادوا يقومون بدور النائب العام والقاضي ويصدرون الأحكام بالحجر على سوريا وفرض العقوبات الشديدة عليها!
قال اللبنانيون: لعله خير! لعل الله قد هداهم فأنقذ لبنان من شر مستطير! ولعلهم قد انتبهوا أخيراً إلى أننا جميعاً شركاء في الحزن وفي الإحساس بفجيعة الفقد، ولعلنا نلتقي أخيراً بوصفنا ـ مجتمعين أولياء الدم!
لكن لحظة الفرح سرعان ما أخلت مكانها لموجة من الطيش والنزق ونقص الإحساس بالمسؤولية، إذ بدأ رمي النار في الشوارع، بل في البيوت، عبر تحويل إبرة الاتهام إلى المقاومة أو بعض «الخارجين عليها» أو «المارقين» أو «المدسوسين» إلخ… كأنما هذا التنظيم الذي لم تستطع إسرائيل اختراقه يمكن أن يضم أمثال هؤلاء، فضلاً عن لجوئه إلى سلاح الاغتيال، وهو القادر على محاسبة من يفترض فيه التقصير علناً وأمام الملأ، وبزخم الدماء التي بذلت من أجل الوطن الصغير وشعبه الذي أنزله في قلبه منزلة إسماعيل.
[ [ [
ها أن اللبنانيين يعيشون، مرة أخرى، القلق على المصير، فخطر الفتنة داهم، ومستثمروها في الداخل والخارج كثيرون وأقوياء ونافذون ويمثلون مصالح دولية مؤثرة.
وبالتأكيد فإن اللبنانيين قد تنفسوا الصعداء وهم يسمعون الأخبار عن قدوم خادم الحرمين الشريفين إلى دمشق، يوم الخميس المقبل، ثم إلى لبنان، الجمعة، مفترضين أن لقاء الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد سيتوقف مطولاً أمام الوضع المثير للقلق الشديد في لبنان، وسيمكنهما ـ بالتأكيد ـ إيجاد صيغة لإنهاء التوتر، وإعادة الطمأنينة إلى النفوس بعد دهر من افتقاد الأمان.
ومن حق المقاومة في لبنان التي أنقذت ـ بدماء مجاهديها ـ شرف الأمة وهذه الدولة التي تعاني نقص المناعة، أن تسمع ما يؤكد عصمتها من احتمال التورط في الاغتيال السياسي، وترشيد من يحتاج إلى ترشيد بأن اتهام المقاومة جريمة أخطر وأبعد أثراً على الأمة جميعاً من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ومن حق رفيق الحريري على من جاء على طريقه ليكمل ما بدأه أن يحميه، ونحن معه، من الاغتيال مرة جديدة.
[ [ [
رحيل الوائلي الأخير..
فَقَدَ لبنان، أمس، واحداً من رجالاته وساسته الكبار على امتداد عقدين من الزمن هو الرئيس كامل الأسعد.
وبقدر ما كان كامل الأسعد كبيراً في الدور السياسي الذي ورثه فأضاف إليه، فإنه كان كبيراً حين أدرك أن مرحلته قد انطوت، فانسحب بهدوء، وإن ظل حريصاً على التأكيد أنه ربما يكون قد اجتهد فأخطأ… لكنه لم يرد ولم يسع لتحقيق ما كان.
وقد يختلف الناس في تقييم ذلك الدور، لكنهم يشهدون لهذا الوائلي الأخير (حتى إشعار آخر) في الحياة السياسية اللبنانية، أنه حاول «عصرنة» الإرث السياسي فجانبه الصواب، ربما لخطأ في الأسلوب، أو ربما لأنه «ابن النظام القديم» الذي عجز أهله مجتمعين عن حمـايته، من دون أن يعني ذلك ـ بالضرورة ـ أن من ورثوا ذلك النظام هم البديل الأفضل.
رحم الله هذا «الزعيم ابن الزعيم» الذي انسحب من المسرح حين أدرك أن زمنه السياسي قد بات خلفه، فلم يتورط في لعبة الدم، ولم يكابر فيقاوم «التغيير» الذي استولدته الحرب الأهلية في ظل السقوط العربي العظيم أكثر مما جاءت به «الثورة» من أجل غد أفضل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان