يصل جورج بوش الثاني إلى بلادنا، غداً، مثقلاً بأكاليل الغار: فلقد تمّ تتويجه في أوروبا، بشرقها وغربها، »ملك الملوك«، أما حين تطأ قدماه الأرض العربية التي أخذها بالسيف، فلسوف يكون »الفاتح« بامتياز!
من وارسو البولونية التي عادت كاثوليكية، إلى بطرسبورغ الروسية التي عادت أرثوذكسية بعدما »تحرّرت« من لينين وشيوعيته، فإلى افيان حيث تستعيد فرنسا مرتبتها كمعبر للرساميل ومصيف لسياحة الأغنياء بدلاً من التعلق بأحلام إمبراطورية بائدة، اطمأن جورج بوش الثاني إلى عودة »أوروبا القديمة« إلى بيت الطاعة وقد تكسّرت أوهامها بالتمايز (بعد الندية) وارتضت أن تحظى بجائزة ترضية تتمثل في أن تكون »القارة الأكثر رعاية« وكفى.
وما أنجزه جورج بوش الثاني في محطاته الأوروبية كثير وخطير، يمكن تلخيصه بأنه »تقنين« لنتائج المواجهات التي تفجرت في شوارع أوروبا جميعاً اعتراضاً على التفرّد الأميركي بالقرار الكوني، ووصلت ساحاتها »الرسمية« إلى مجلس الأمن، قبل أن تنتهي بالانكسار المدوي حين خرقت الإدارة الأميركية »الشرعية الدولية« وذهبت إلى الحرب ضد العراق ومعها بريطانيا فقط وإلى احتلاله، فلحق بها المعترضون معتذرين، وبالكاد قبلت اعتذارهم ورمت لهم فتات بعض الغنائم العراقية غير المحدودة.
أما في بلادنا فالأمر مختلف جداً، في الشكل كما في المضمون.
في الشكل: لن يتوقف »الفاتح« الأميركي في أي عاصمة عربية… بل ستكون محطاته العربية مدناً اصطنعت على عجل كمنتجعات أو استراحات ملكية، لا سكان فيها من »أهل البلاد الأصليين«، أرضها ليست لها بل لأشتات المستثمرين الذين وجدوا في بعض »حرامية الداخل« شركاء أو واجهات، ونالوا من الحكام امتيازات واستثناءات وإعفاءات غير محدودة، وهكذا بات بإمكانهم أن يجنوا أعلى معدلات في الربح لرساميل معظمها ليست منهم وليست نقداً بأي حال.
فلا شرم الشيخ هي مصر، ولا العقبة هي الأردن، ولا القاعدة الأميركية في »السيلية« هي قطر، مع أن قطر لم تكن يوماً ولا يمكن أن تكون ولا هي تطمح لأن تكون دولة القرار العربي.
الاختيار دقيق: فالصفقات المشبوهة لا تتم تحت الضوء، وفي عواصم مزدحمة بملايين ملايين المحبطين والناقمين على سلطاتهم، الممتلئين بالغضب ضد »الفاتح« الأميركي الذي أخذ بلادهم بالتواطؤ ثم بالسيف، وبالتخاذل قبل صواريخ كروز، وبغربة الحكام عن شعوبهم قبل أن يبدأ العدوان وبعده.
لماذا تعريض الحكام الخائفين لامتحان معروفة نتائجه، في إثبات »شعبيتهم« ورسوخ أنظمتهم »الديموقراطية«؟! ولماذا تعريض الأنظمة المتهالكة لعواصف يختلط فيها »العصيان« البدوي مع »القهر« الفلسطيني؟!
ثم أنها مجموعة استدعاءات لبعض الوكلاء المحليين لكي يؤمنهم »الفاتح« على حياتهم، قبل أن يقرّهم، مجدداً، في مناصبهم، بمعزل عن »حقوقهم« فيها وسواء أكانوا قد أخذوها بالسيف وحده أم بالسيف والقرآن معاً أم بإثبات الأهلية عبر الولاء المطلق للسيد البريطاني القديم، ثم لوريثه الأميركي الجديد والمتجدد بالتفرد الآن؟!
* * *
ليس مصادفة أن يؤتى »بأبي مازن« إلى شرم الشيخ ممثلاً لفلسطين، وأن يكون »الفاكهة الجديدة« على طاولة »الفاتح جورج بوش الثاني«.
»أبو مازن« هو النموذج الفعلي للحكام العرب في العصر الأميركي: تعيّنه إسرائيل ويعتمده البيت الأبيض، بمعزل عن رأي الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير الوطني الفلسطيني و»السلطة« ورئيسها قائد الثورة (!!) رمز النضال القائد العام الختيار أبو عمار ياسر عرفات.
الانتخابات والديموقراطية والحكم بالشرعية الدستورية للأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، وليس للرعايا المتخلفين والهمج والإرهابيين من المتعصبين والقتلة في هذه الأرض التي فتحها جورج بوش الثاني بالسيف!
ثم أن إعلان البراءة من اللغة القديمة هو الشرط الأول للتعيين: ما هذه الكلمات البائدة التي ما زال يتداولها البعض مثل »الثورة«، »الكفاح المسلح«، »التحرير«، »المقاومة«، »الجهاد«، »حرب التحرير الوطني«، »حرب الشعب«، وصولاً إلى »منظمة التحرير الوطني الفلسطيني«.
»التحرير« امتياز أميركي مثل الكوكاكولا والمارلبورو. وقد خصت بشرفه الكويت قبل 13 سنة، وخُص به العراق قبل أربعة وخمسين يوماً، وربما أنعم به على »مستعمرات« أخرى إذا قضت الحاجة!
* * *
سيكون المشهد فريداً في بابه في شرم الشيخ: لن تكون »قمة عربية برئاسة أميركية« كما ذهب الخيال بالبعض، ولن يكون لقاء بين »ملك الملوك« ومجموعة من »حلفائه« حكام الأقاليم… ولا حتى بين رئيس مطلق وعدد من مرؤوسيه أو معاونيه.
له وحده حق الكلام، وكلامه هو جدول الأعمال وهو أيضاً برنامج عملهم في الفترة المقبلة. إنه منتصر مطلق مع مجموعة من المهزومين في حرب لم يدخلوها، فضلاً عن أنه لم يكن لهم رأي فيها.
وله وحده حق محاسبتهم عن قصورهم وتقصيرهم وفشلهم في إدارة شؤون بلادهم، كأنما لا نفع فيهم لا في السلم ولا في الحرب.
طبعاً لن يقبل منهم شكواهم من »إيمان« شعوبهم، خصوصاً وأنهم يحكمون باسم الدين، ولو مشفوعاً بشيء من الذهب وكثير العسف.
كل كلمة سيقولها قد ترتد عليهم: إن تحدث عن الطغيان تحسسوا رؤوسهم، وإن ذكر الديموقراطية ارتعدت فرائصهم، وإن أشار الى التفرد واحتكار السلطة والثروة والسلاح قالوا: يا خفي الألطاف نجّنا ممّا نخاف!
ثم أن في كل منهم الكثير من صدام حسين… بل لقد كانوا شركاءه وحلفاءه وأتباعه لردح من الدهر، يخصونه بأموالهم رخيصة وألقاب التعظيم
والتضخيم وينظمون فيه القصائد ويرون فيه »بطلهم القومي« بوصفه »حارس البوابة الشرقية« يومئذ كانت القومية محببة ومفيدة لتستخدم في مواجهة الشعار الديني، أما اليوم فمن الضروري تحطيم الشعار الديني بعدما تمّ تحطيم (بل تعهير) الشعار القومي ..
***
سيكون المشهد فريدا في بابه في شرم الشيخ، لكأنه يوم الحساب!
طبعا لن يخطر ببال أي منهم أن يسأل »الفاتح«. السؤال شرف لا يستحقه أي تابع. هو من سيسألهم ويسائلهم!
من يجرؤ منهم على سؤاله، مثلا، عن العراق: لماذا اختار أن يجتاح هذه الدولة العربية الكبرى؟ وأين أسلحة الدمار الشامل فيها؟! وأين جيشها الجبار الذي كان يهدد سلامة العرب، بل وسلامة الولايات المتحدة الأميركية ذاتها؟ ولماذا دمر وما زال يدمر المرافق العامة والإدارات والمؤسسات في هذه البلاد التي كانت غنية فأذلت بالطغيان ثم جاءها الاحتلال ليمحو دولتها عن الخريطة السياسية ويلغي هويتها العربية؟!
حتى في موضوع فلسطين سيكون الكلام من حقه وحده، ولن يجرؤ أي منهم على مناقشته… وسيمكنه التباهي بأنه قد أعطى فلسطين أكثر مما أعطوها مجتمعين، فهو قد وعدها بدولة واستبق قيامها بتعيين رئيس للحكومة بديلا من شعبها وجميع مؤسساتها الموروثة عن أيام الفوضى الثورية، والعروبة اللفظية والإسلامية الإرهابية!
***
سيكون المشهد فريدا في بابه في شرم الشيخ:
سيحاسبهم »الفاتح« على الأصولية والأصوليين، من السعودية إلى المغرب ومن مصر إلى فلسطين (حتى من قبل أن تحكم حكومتها سلطتها فضلا عن شعبها).
وسيحاسبهم عن غياب الديموقراطية والمشاركة الشعبية، منصبا نفسه بديلا من شعوبهم التي تزور إرادتها مرة باسم »الحق الإلهي« وطورا باسم »النسب الشريف«، ودائما بالسيف والدينار ومعهما مختارات تناسبهم من القرآن الكريم.
وسيحاسبهم عن عجز أجهزتهم الأمنية عن القمع الكلي، وعن تأمين الحماية المطلقة لعسكر الاحتلال في »دولهم« وخارجها، ولا سيما العراق الآن..
إنه الآن المنتصر عليهم وعلى خصومهم!
وهم الآن آتون إليه بخوفهم من شعوبهم، مع وعيهم بأنه سوف يكون المصدر الأول لخوفهم اليوم وغداً.
ولقد يمتحنهم في دينهم، ثم يتطوّع لأن يعلمهم أصول دينهم، فضلا عن تعليمهم كيف يسلكون في دنياهم!
قد يذكرهم (أيضا وأيضا) بسفههم في تبذير الثروات الطائلة على القصور والحريم وطاولات القمار والمصايف الملية والحاشيات الامبراطورية.
***
سيكون المشهد فريدا في شرم الشيخ: سيجلس أصحاب الجلالة والفخامة، وبينهم الخليفة أمير المؤمنين، وخادم الحرمين الشريفين، والهاشمي سليل الأسرة الشريفة، والمعظم نفسه في البحرين، ورئيس أكبر وأعظم بلد عربي، وريث الفراعنة، في حضرة »الفاتح« الذي يمتع نفسه الآن بحقوق الديّان فيعاقب ويثيب!
وسيكون الامتحان قاسيا قبل أن يقرر »الفاتح« ما إذا كانوا جديرين بأن يحكموا لحسابه الممالك والآبار والآثار والرعايا الذين يحكمونها!
لن ينتبه إلى الهدايا التي سوف يحملونها إليه، ولكنه سيقدم على الأرجح صورا تذكارية لفتح العراق، ربما كان من بينها تلك اللوحات الخالدة لعمليات النهب المنظم لمتحف بغداد ولدار الكتب الوطنية فيها: ذاكرة الأجيال، وشهادة العراقة، والدليل الذي لا يدحض على أن هذه الأمة تستحق الحياة، بل وانها قادرة ومؤهلة على المساهمة في صنع الحضارة الإنسانية، إذا ما تسنى لشعوبها أن تقول كلمتها في شؤون حياتها، وان تمارس حقوقها في اختيار حكامها بدل أن يفرض عليها طغيان السلطان الداخلي المعزز بالنفوذ الأجنبي، أو الاحتلال الأجنبي المباشر، كما سنراه جلياً في »قمة الفرض« في شرم الشيخ، بعد »قمة الإذلال« في العقبة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان