انتصر العلم. هو الذي يشفي. على الناس ، بما فيهم رجال الدين، أن يصغوا الى العلم. لا التعاويذ الدينية تنفع، ولا الابتهالات الدينية الى المتسامي تنفع. يأخذ رجال الدين تعليماتهم حول السلوك اليومي من علماء العلم الحديث والتقني لا من رجال دين آخرين. ليس في كتاب مقدس أو مجموعة من الأحاديث النبوية أو الرأي الديني أو القياس أو الإجماع أي فائدة بالنسبة لعموم البشر. عليهم أن ينصتوا لعلماء لم يسمعوهم إلا لماما في الأحوال العادية. الآن يقود الدفة العلماء والممرضون. يملون الاجراءات التي يجب أن تتخذ.
انهزم أيضاً السياسيون. ظن بعض رؤوساء الدول الاقليمية والدولية، وبعض وزراء المعجزة عندنا أن أراءهم تقرر مصير الفيروس. اضطروا هم للإنصات لارشادات رجال العلم.
نشبت أزمة الكورونا دون توقعات. اجتاحت العالم. حاول التفسير الكثير من المشعوذين وأصحاب نظريات المؤامرة التي يستخدمونها لتفسير كل حدث جلل. فشلوا أمام العالم.
الحل علمي. على العلم أن يقول كلمته. إن لم يكن مهيئاً، فليهيّء نفسه. تلهث كل البشرية وراءه. إذا كانت الظروف المالية غير مهيّأة فالضغط الشعبي على الحكومات لتمويل البحث العلمي لإيجاد لقاح أو دواء. احتل خبراء العلم، الأطباء وعلماء الصحة الاجتماعية المنابر. هم الذين ينصت إليهم الجمهور. أراؤهم ونصائحهم هي التي توجّه الحياة الاقتصادية واليومية والرياضية، حتى ولو أدى الأمر الى تراجع اقتصادي أو الى ملاعب خالية.
العلم الحديث علاقة ما بين الانسان والطبيعة البشرية أو البيئة. الدين علاقة ما بين الانسان والله. نظم العلم نفسه في مراكز بحوث. استفادت الرأسمالية، فاستفادت من ذلك شركاتها. نظم الدين نفسه فاستفادت المؤسسات الدينية من ذلك وصارت تنطق باسم الله، وتجمع من المال ما لا ولم ولن تحتاجه. في هذه الظروف تنتصر العلاقة بين البشر على العلاقة مع الله. ينتزع العلماء الحديثون من رجال الدين حق النطق باسم البشر. لا يستطيع رجال الدين انتزاع حق النطق باسم الله. هم مبتلون، واذا كان الله لم يعرف ولم يقرر ما يجري فالمصيبة أكبر، إذ تنهار المنظومة الدينية.
فشل شعار “الإسلام هو الحل”، بمعنى الحل لكل شيء. الدين عبادة. إذا اقتصر على العبادة، فهو ليس مقصوداً لحل كل شيء. الانسان بعلاقته مع البشر الآخرين هو وحده المهيّأ والقادر على كل الحلول، ولو كان مقصراً. والتقصير كبير. عندما تكون الرأسمالية غير مهتمة إلا بالثروة وتكديس الأرباح فإن معالجة الانسان ليست في أولوياتها. ستستجيب لذلك بدافع الربح أو بضغوط من الدولة. هذه من مهمات الدولة الأساسية. أن نضبط الدولة الرأسمالية فالأمر يحتاج الى نضال طويل. لكن الطريق ليس مسدوداً كما هو مسدود أمام رجال الدين. مساكين، لا يستطيعون استخراج أو استنباط الدواء من بطون الكتب. وعندما تعلن “الثورة الإسلامية الإيرانية” حاجتها الى معونة طارئة بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي، فهي تعلن فشلها، ربما في إدارة الدولة، والأرجح في إدارة العلم والتنكر له. نسخ أجهزة الطرد المركزية للصناعة النووية لا تعني تقدما علمياً.
التقدم العلمي يتطلّب بالدرجة الأولى تغيير البنية الثقافية للمجتمع أو للنخب على الأقل. وتتطلّب أن تصير النخب مسموعة في المجتمع، مما يؤدي الى تغيير الوعي السائد في المجتمع بالتحوّل من مجتمع معجزات الى مجتمع قوانين علمية. مراكز البحث والتفكير هي الأداة الى تؤدي الى هذا التحوّل لا خطب المساجد. الكارثة الكبرى هي في شعار الأخوان المسلمين، “الإسلام هو الحل”. حل لم يقدم شيئاً سوى لمشاكلهم النفسية ومحاولة صعودهم الى السلطة ومساهمتهم في الإمعان باستغلال الجماهير.
نضطر تحت وطأة الكارثة الى استيراد المستشفيات والآلات الطبية ووسائل معالجة الوباء وتطبيق التعليمات حول السلوك اليومي. كل ذلك من العالم المتقدم. الى جانب كل ذلك نستورد ثقافة جديدة. بإشراف للصندوق الدولي نستورد شروطاً تفرض علينا في إيران؛ هي ممنوعة في لبنان. معالجة رأس الأخطبوط دون أذرعته. نعم نستورد ثقافة الغرب بكل فرح وحبور. لم تعد كتبنا التراثية الصفراء تفيدنا. انتصر الدين على العلم. لن يستمر ذلك دون تقليد ثقافي يقوم على تقليد الغرب ونسخ ثقافته. ذلك يعني أن يغيّر حكامنا من بنيتهم العقلية. أن ينزعوا منها الماضي (فهو لا يشفينا) ويضعوا مكانه علم الغرب عله يشفينا. نحن رفضنا الصندوق الدولي. الثورة الإسلامية فعلت. وإذا استجاب صندوق النقد فالثورة الإسلامية سوف تضطر للتعامل مع شعبها بغير الأساليب الماضية. على الأقل هي مضطرة للاعتراف بأن شعبها والشعوب العربية الواقعة تحت سيطرتها تستحق الحياة. تستحق أجساماً سليمة. العقل السليم في الجسم السليم. العقل والجسم لا يكونان سليمين دون حرية. يوم أقرت الثورة الإسلامية حاجتها لصندوق النقد الدولي فهي أحنت رأسها. تخلت عن عنفوانها، أقرت بالسماح للمجتمع بأن يسير على درب المجتمع المفتوح. أقرت بما كانت تكابر ضده وتنكره سابقاً. دفعتها الأزمة الى الأخذ بمشورة الشيطان.
أما لبنان الذي هو فاتح بوزه وراخي أعضاءه فهو أعجز سياسياً عن القرار والتقليد الشجاع كما فعلته ايران. تبقى السلطة مستودع نفايات من القرارات التي تتخذ في بلدان أكثر تخلفاً لا تقدماً. واضح أن التعليمات الإيرانية من خلال حزب الله لا تسمح للدولة بتطبيق التعليمات الكفيلة باحتواء فيروس الكورونا. على المجتمع أن يفعل ذلك لا الدولة. على أركان الدولة أن يشعروا أن في لبنان شعباً وأن الشعب يستحق الحياة، وأن هذا الشعب ليس رهينة لأي قرار سياسي. القرارات في لبنان خاضعة للماكينة (أباراتشيك) السياسية في ايران. لذلك يتخبط في السياسة في السلطة اللبنانية خبط عشواء. ليس الأمر نقصاً في الإمكانيات المالية، رغم الأزمة. الأمر هو في العجز التام عند السلطة السياسية. أهم ما في هذا العجز هو “فقدان السيادة” والخضوع لبلد أكثر تخلفاً في معالجة الأزمة. إذا كان الأصل يلهث وراء صندوق النقد الدولي، فماذا تعني معارضة جهابذة السلطة وحزب الله؟ في الوقت الذي يقبل لبنان مساعدة من “البنك الدولي” لماذا لا يقبل مساعدة من أخيه صندوق النقد الدولي؟
مكتوب على لبنان أن يستدعي المجتمع لحل الأزمة الطبية لا الدولة التي تمنعها “اعتبارات سياسي” من ذلك، كما قيل في مجلس النواب. كان الشعب اللبناني ينتظر الإرشادات والقرارات والسياسية من دولته. ليس فقط من شاشات التلفزيون وبقية وسائل الإعلام والخبراء الذين يتبرعون لذلك. كان ينتظر ذلك من دولته.
أخيرا، الطريق الوحيد لحل هذه الأزمة الطبية، في لبنان وغيرها، هو البداية بالاعتراف بالأزمة ثم أخذ العبر من الدول التي أفلحت أو تكاد تفلح. ذلك لا يحدث إلا في مجتمع مفتوح، لا في مجتمع بعضه مغلق. لدينا من العلم الحديث وعلمائه ما يكفي لردع علماء الدين عن استخدام مقولات الفقه لمعالجة أزمة صحية لم تكن موجودة يوم اخترع الفقه الإسلامي والمسيحي.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق