… وكان لا بد أن تجيء اللحظة التي كان يتوقعها »البروفسور« بلا خوف، ويسعى لأن ينجز مهمته متسرعاً حتى لا يسبقه الموت فيرحل قبل أن يقول ويفعل كل ما كان يريد أن يقوله ويفعله.
رحل إدوارد سعيد. انطوى داخل وجعه الذي قاومه دهراً، بالإنتاج الغزير والإبداع المميّز، كتباً ومحاضرات وتظاهرات وندوات وحفلات موسيقية، وباستعادته هويته الأصلية لتغدو فلسطين أقوى من »المنفى« الأميركي الذي جاءه فتى وعاش فيه عمره كله بين الكتب والمدرجات وحلقات النقاش بل الصراع حول »الوطن« الذي ظل أوسع من »الذاكرة« وأجمل من الصورة.
أمس، فقدت فلسطين واحداً من رموزها المضيئة، وفقد العرب واحداً من أعلامهم القلّة على المستوى العالمي، وفقدت الثقافة مبدعاً مجدداً قدم إضافات متميزة في النقد الأدبي كما في الفكر السياسي، وفقد النضال ضد إسرائيل الدولة العنصرية واحداً من الفرسان الذين عرفوا كيف يقاتلونها في »بيت أبيها« وبالمنطق الذي يصعب على أي عاقل أن يرفضه.
أمس، فَقدَ الأدب واحداً من »شعرائه« الكبار، فماذا يكون »الشاعر« إن لم يكن على صورة هذا العازف مرهف الحس، ذوّاقة الأدب، الذائب حنيناً إلى أرضه التي حفظها بتفاصيلها نصف قرن في ذاكرته بغير أن ينسى ملمحاً منها أو تلميذاً التقاه في الابتدائية، أو معلماً من معالم العمران سواء في حي الطالبية في القدس التي »هي الحزن والعذاب« والتي ظلت معه في منفاه، والقاهرة »المدينة الوحيدة التي شعرتُ فيها أنني في مدينتي، داخل اللغة واللخبطة والتوتر«.
يمكن القول إن الهزيمة قد أعادت إدوارد سعيد إلى حقيقة انتمائه، ومن بعدها المقاومة التي تواصلت برغم »الاتفاقيات« و»القمم« و»الخلوات«، بل يمكن القول إن انتفاضة فلسطين المستمرة منذ 1936 وحتى اليوم ظلت تغذّي حق شعبها في أرضه بدم الفتية والنساء والكهول والأطفال الذين يرفضون النسيان. بل هي تعيد الوعي إلى من غفل أو تاه أو نسي!
يمكن القول أيضاً إن إدوارد سعيد قد قدم لفلسطين ومن موقعه ما لا يستطيعه الآخرون، وإنه أسهم إسهاماً جدياً مع مناضلين كثر غيره في زرع فلسطين في ذاكرة النخبة الأميركية، بقدر ما أسهم مع مجتهدين غيره في التبشير بحل آخر، قد يرفضه للوهلة الأولى كل المعنيين به، حدده بقوله: »فلسطين ليست أرضاً لشعب بل لشعبين لا يمكن لأحدهما إلغاء الآخر أو طرده منها، وعليهما أن يتعايشا بسلام«.
اليوم يستقر إدوارد سعيد في الذاكرة التي كانت على الدوام وطنه.
… ولأنه في الذاكرة فهو سيكون في الغد، وبعد أن يلغي الزمن بعض فوضى الأفكار، وبعض التشويش الذي كثيراً ما ضغط عليه فرد عليه بالرفض المطلق، والكثير من الحرب الظالمة التي لم تحترم ثقافته ومكانته و»حقوقه كمواطن أميركي« فطاردته بأعنف من مرضه العضال وتصدى لها ببسالة وكأنها الوجه الآخر للمرض الخبيث.
اليوم عاد إدوارد سعيد فلسطينياً خالصاً، عربياً خالصاً، إنساناً مبدعاً تتلمذ عليه الآلاف وسيحمله في وجدانهم الملايين.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان