سئلت عن سبب إكثاري من الكتابة عن أوروبا. أجبت، وبدون كثير تردد. قلت أكثرت لأنني من المؤمنين بمركزية أوروبا. مركزية طويلة العهد في النظام الدولي الذي تقاعد مؤخرا وفي النظام الذي سبقه، وأي نظام وجد قبلهما، وكذلك في النظام الجاري حاليا التفكير فيه والاستعداد له. قلت أيضا، وحتى لو تغافلنا عن هذه المركزية في تاريخها الممتد عبر الزمن وتأملنا قليلا في نمط التطورات الراهنة في العلاقات بين الدول الكبرى وبينها وكثير من الدول الأصغر واقتفينا آثار حركة الشعوب في آخر مراحلها لوجدنا أكثر المؤشرات تتوجه في شكل تدفقات مباشرة قادمة من الجنوب عابرة البحر المتوسط ومن الشرق عبر اليابسة ومن الغرب عبر الأطلسي. نجدها تتوجه في عكس توجهها في معظم، إن لم يكن كل، عصور التاريخ المسجل للحضارة الإنسانية.
أنا وكثيرون غيري لنا كتابات تكشف عن أننا صرنا نرى أوروبا في الظروف الراهنة ضعيفة ضعفا ملموسا. نراها أقل منعة في مواجهة غزوات ثقافية وتجارية وسياسية تشن عليها في وقت واحد من نقاط في أقصى الشرق وأخرى في أقرب الشرق. رأيتها خلال الشهور الأخيرة تراجع نفسها وقد اتضحت احتمالات مستقبل تغيب فيه القيادة الأمريكية عن مباشرة مسؤولياتها الأمنية في العالم الغربي، وتختفي عنه بعض أهم قواها الناعمة، وتعود معه بعض أسباب العنف والاقتتال الذين اشتهر بهما تاريخه الممتد. لا بد أن أضيف هنا أنني خرجت من جولة تأملاتي أشد اقتناعا بأن أوروبا وإن مريضة فإنها ما تزال تحتفظ بقوة جذب جيوسياسية هائلة.
لم أكن وحدي. كانت معظم مراكز البحث الأوروبية تسعى في الاتجاه نفسه ومعها إعلاميون كثيرون. كلهم راحوا يقيسون مساحة الضرر الذي أصاب أوروبا. واحدة منهم صاغت عنوانا واضحا ومباشرا لسؤال يمكن أن تجتمع في مضمونه مؤشرات عديدة. صاغته الباحثة والصحفية جودي ديمسي في الكلمات الثلاث التالية “هل انكسرت أوروبا؟” ووجهته إلى عدد كبير من المتخصصين في الشأن الأوروبي والخبراء في حقل العلاقات الدولية مع طلب الإجابة عليه بايجاز وصدق. قرأت الإجابات، كلها فيما أتصور. وجدت ما يشبه الإجماع على تسجيل عبارة “لا.. أوروبا لم تنكسر” تلحق بها فورا والتصاقا كلمة “ولكن”. أرادوا بكل ما قيل أو كتب بعد كلمة ولكن، أن يعلنوا بالتلميح أن أوروبا لم تنكسر. أوروبا في نظر محبيها وعشاقها وخبرائها لم تنكسر، أوروبا معطوبة أو مصابة أو ضعيفة أو مريضة أو مضغوطة أو مقصرة أو عند مفترق طرق أو متحولة أو مأزومة أو غير واثقة أو فاقدة الثقة، اختر ما شئت من صفات، ولكنها لم تنكسر.
أنقل فيما يلي ملخصا لبعض ما ذكره الخبراء كتحليل وتوصيف للحالة الأوروبية الراهنة من خلال إجاباتهم على السؤال، هل انكسرت أوروبا؟ أحدهم واسمه بلندوسكي خبير في الاقتصاد الدولي وعضو في البرلمان الأوروبي، أي أنه قريب الصلة والفهم لعمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي قال إن أوروبا لم تنكسر ولكنها ستعجز عن توفير وظائف للعمال الذين سيفقدون وظائفهم نتيجة التقدم التكنولوجي المطرد حتما وظروف الانتقال إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي. أوروبا سوف تفشل في مهمة تضييق الفجوات بين مختلف أقاليمها الجغرافية، أقاليم الجنوب والشمال والشرق والغرب. أوروبا ليست مؤهلة لصد الإرهاب وحملات التخريب السيبرية سواء القادمة من إيران أو من روسيا أو حتى المتبادلة بين دول الغرب.
قالت خبيرة أخرى، إليزابيث براو، إن أوروبا لم تنكسر والصف طويل تصطف فيه دول تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. مشكلة أوروبا، في رأي السيدة براو، تكمن في أمرين: أولهما توقعات الشعوب الأوروبية وحلفائها منها، وأقصد من أوروبا الحلم والواقع والأمر الثاني يجسده انخفاض معدل سرعة الاندماج والتكامل. نذكر في السبعينات كيف نفذت المؤسسة الاندماجية الأوروبية معدلات بالغة السرعة في الاندماج وهي الآن بالكاد تتحرك. أضف إلى التوتر الناتج عن هذه المشكلة توترات أخرى ناشئة عن ظاهرة رجال من نوع فيكتور أوربان الزعيم المجري. أمثاله من الشعبويين والقوميين الجدد قد يكونوا على وشك أن يحتلوا أغلبية المقاعد في البرلمان الأوروبي. “حتى لو وقع هذا الاحتمال سوف تبقى أوروبا غير منكسرة”.
أما الخبيرة السويدية مارجريتا سيديفيلت فتقول هي الأخرى إن أوروبا ليست منكسرة ولكنها تحت الضغط. تأتي الضغوط من تدفقات الهجرة ومن التهديدات الروسية للاتحاد الأوروبي. تأتي أيضا من وراء الحرص الشديد على حماية قيم بعينها مثل حرية انتقال المواطنين وحريات التعبير والعقيدة والمساواة والليبرالية. بالنسبة لهذه الخبيرة وغيرها يكفي وجود هذه القيم لنعرف أن أوروبا لم تنكسر.
يقول انجيلوس كريسيلوس عن أوروبا إنها قد تكون منكسرة ولكن هذا لا يعني أنها ستنفرط قريبا. أوروبا تعاني من عجز في السياسات وفي التمثيل. فشلت في مجالات عديدة. فشلت في وضع سياسات مناسبة للتعامل مع اللاجئين وفي تخصيص حصص لدول في مسألة الهجرة. فشلت كذلك في الاستعداد والتأهل لتسوية أزمة يتسبب فيها خروج عضو من الاتحاد الأوروبي. إن استمرار هذه العقبة، عقبة التصدي لتداعيات خروج عضو من الاتحاد، سوف يزيد في قوة وانتشار الحركات الشعبوية والقومية، التي سوف تحاول بدورها العمل من داخل مؤسسات أوروبا وليس بالضرورة من الخارج. الغريب في آراء هذا الخبير اعتقاده أن الشعبوية الزاحفة على مؤسسات الاتحاد الأوروبي قد تفيد في التصدي لمحاولات هيمنة بعض الدول الأعضاء على جهاز أو آخر في الاتحاد.
بال جونسون السويدي يعتقد هو الآخر أن أوروبا لم تنكسر ولكنها تتعرض لثورة مضادة للنظام الليبرالي العالمي بشكل عام وهي نفسها أحد أهم أهداف هذه الثورة. هناك تحديات أخرى منها تدفق المهاجرين واللاجئين والنقص الشديد في حال التضامن والانسجام داخل المجتمعات الأوروبية. بمعنى آخر يرى أن مشكلة الوحدة الأوروبية تجد بذورها في المجتمعات الوطنية وليس في مؤسسات الاتحاد الأوروبي. يعتقد جونسون أن الأزمة الناتجة عن خروج بريطانيا تجسد وحدها ضغطا هائلا على هياكل الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك يتصور أن العائد سيكون إيجابيا بدليل هذا الإقبال على المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي.
الخبيرة البلجيكية ياسمين خرباش تعتقد مثل غيرها من الخبراء أن أوروبا لم تنكسر وإن قصرت في تحقيق توقعات الشعوب. قصرت مثلا في التعامل مع أزمة الهجرة، وتعنتت في فرض التقشف خلال الأزمة الاقتصادية، ولم تحسن الأداء خلال مشكلة البريكسيت وأخفقت بشدة في التعامل مع الفجوة المتفاقمة بين الفقراء والأغنياء. خبير آخر يعتقد أن أوروبا تقف عند مفترق طرق وفي الغالب لن تحقق ما وعدت به المواطنين الأوروبيين. هناك مشاكل حقيقية تتعلق بتناقص ثقة هؤلاء المواطنين في مؤسسات الاتحاد فضلا عن زيادة كبيرة متوقعة في عدد وأنشطة الحركات الراديكالية. هذا الخبير واسمه جوها ليبونيم وهو من فنلندا يعود وينبه إلى التحديات الهائلة القادمة وأهمها أولا، التحول في اتجاه الثورة الرقمية وثانيا، التخلص من الكربون. ويضيف أن هذه التغيرات الهامة لا تحظى بحماسة جماهيرية كالحماسة التي صاحبت تحديات نشأة الاتحاد.
“أوروبا لم تنكسر”. بل إنها من نواحي عديدة أحسن حالا من أي وقت مضى. جاء وقت كان الشيوعيون يحصدون حوالي 30% من أصوات الناخبين ثم جاءت الحركات الراديكالية تهز أركان الاستقرار في إيرلندا وإيطاليا وألمانيا واليونان على امتداد الفترة بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي”. هكذا يدافع الخبير الإنجليزي دنيس ماشين عن حال أوروبا الراهن، ويذكر بالانتقادات والمواقف المعادية للمؤسسات الأوروبية من جانب ديجول ومارجريت تاتشر وبرلسكوني في إيطاليا وأزنار في إسبانيا. صمدت أوروبا في وجه كل هؤلاء وفي وجه الأزمة المالية العالمية في 2008 وهي التي كان يمكن أن تتفوق بخطورتها وعواقبها على أزمة الكساد العظيم التي ضربت العالم في القرن الماضي.. ثم نشبت أزمة البريكسيت تنذر بخسائر اقتصادية هائلة. هذه جميعها تؤكد قدرة أوروبا المتجددة باستمرار.
تعتقد الخبيرة اليونانية اليني بانجوتا أن المبشرين بانكسار أوروبا لهم أهدافهم. هؤلاء يريدون سحق الليبرالية ويدعون لفرض الرقابة على الصحف وتقييد الحريات. وتعيب على المسؤولين في مؤسسات الاتحاد تقصيرهم في إدخال الاصلاحات الضرورية على أجهزة ونظم عمل الاتحاد. أدى هذا التقصير إلى ابتعاد المواطنين الأوروبيين عن أوروبا عاطفيا وسياسيا. ومن ليتوانيا يدعو الخبير جينتاري سكايستي إلى الواقعية في النظر إلى أوروبا. إن مشكلات أوروبا ليست أكثر أو أقل من مشكلات كل العالم. هناك الفجوة بين الفقراء والأغنياء وانحسار الثقة في الديمقراطية. هناك أيضا التناقض في المصالح القطرية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والعجز عن محاسبة المسؤولين في المفوضية.
أما ايفان فيزفودا فيقول لقد انقضت مرحلة التدليل لأوروبا وحان وقت الاعتماد على النفس. أوروبا تقدمت ونمت في ظل مظلة الأمن التي وفرتها أمريكا، وهي الآن تسحبها. واقع الأمر في قضية انكسار أو عدم انكسار أوروبا يرتبط بتطورين على أقصى درجة من الأهمية، الأول صعود ترامب والثاني خروج بريطانيا. يقول بيير فينون أن أوروبا لم تنكسر ولكن تحد من أدائها ثلاثة عوامل أولاها النقص في التضامن المطلوب أثناء المفاوضات مع الخارج، ثانيها التقاعس عن المشاركة في حل المشكلات الجماعية، ثالثها ما زالت حكومات أوروبا تطبق مبدأ “كل منا لتحقيق أهدافه أولا”.
كنت أقرأ ما سطره خبراء أوروبيون دفاعا عن الاتحاد الأوروبي وكلي أمل ورغبة في أن أرى عندنا جهدا مماثلا للدفاع عن جامعة الدول العربية. وأسأل نفسي مرة أخرى لماذا لا أجد عربا بهذا العدد يدافعون بهذا الصدق وبقدر معقول من الأمانة عن الجامعة العربية. انكسر العمل العربي المشترك فهل من مدافع يصرخ بصوت عال أو حتى يهمس في أذني، “لا لم ينكسر”. الحلم العربي غاب عنا في صحونا ونومنا. زهق وتبخر فلن يعود. أم أنه يوما سيعود؟
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق