تغرق بيروت وطرابلس والطريق بينهما وإليهما في بحر من الصور بما يشكل إطاراً لجبل لبنان.
أما في الطريق إلى الجنوب ومنه، وإلى البقاع ومنه، فإن الصور تتناقص حتى تكاد تندثر كلما ابتعدت عن المحاور المؤدية إلى جبل لبنان أو المنطلقة منه.
في الصحف ومحطات التلفزة، تراجعت الأطراف إلى مواقعها في الظل، وتصدّر جبل لبنان، بدوائره المختلفة، النشرات الإخبارية والبرامج الخاصة، المجانية والمدفوعة، على حد سواء.
وبرغم الاعتراضات والانتقادات والكاريكاتور الساخر والنكات اللاذعة، فإن انتخابات 2000 تبدو في جانب معين مختلفة عن انتخابات 1992 كما وعن انتخابات 1996، حتى لو تبدت جميعها متشابهة في مظاهر التعليب والاستخدام المتزايد »للبواسط« والمحادل وما إليها من وسائط الوصول المريح والسريع.
أهم مظاهر الاختلاف بروز جبل لبنان كمركز استقطاب أساسي، بل وكأنه المحور الأساسي للعبة الانتخابية التي تكاد تبدو لأكثرية اللبنانيين وكأنها بغير مضمون.
لقد غيّب تقسيم العاصمة الى دوائر ثلاث، بيروت بوصفها »المركز«، و»القلب«، وعطّل تنوعها وتمثيليتها لكل الطوائف والمذاهب، ولكل التيارات والقوى السياسية، وأضعف دورها كرافعة وقوة دفع وحاضنة للوجوه الجديدة وللمنادين بالأفكار الجديدة والساعين إلى التغيير من داخل النظام وعبر استقطاب القوى الشابة بدلاً من الاندفاع في مغامرات انقلابية غالبا ما تنقلب إلى محاولات انتحارية.
كذلك أصاب تقسيم الشمال، طرابلس بأبلغ الضرر، إذ أضعف دورها كمركز استقطاب وألحق أشد الأذى بصورتها الجامعة لأنحاء الشمال المختلفة والمتنوعة طائفيا ومذهبيا.
صارت بيروت ثلاثاً، وصار الشمال شمالين.
أما الجنوب والبقاع فمشطوبان من الذاكرة الانتخابية، أصلاً، ولا أحد يهتم بما ستنتهي به أو إليه الانتخابات في هاتين المحافظتين، المقسَّمة إحداهما إلى ثلاث دوائر بواسط، والمجمعة دوائر »المحافظتين« الجنوبيتين نظرياً في »بوسطة« واحدة،
أما جبل لبنان فإن تقسيمه لم يفعل إلا إحياء حزبياته القديمة، فاستعاد عبر الدوائر شيئا من تاريخ انقساماته السياسية، واستعاد بالتالي شيئا من الحيوية عبر »عودة الروح« إلى الماضي الذي ثبت أنه يستعصي على الاندثار.
ومع غياب أو تغييب بيروت وطرابلس كقوتي توحيد من طبيعة وطنية، وعودة الأطراف (البقاع والجنوب والشمال) الى موقعها التقليدي في النظام اللبناني كملحقات، فقد ظهرت إشارات على عودة نشطة ومستقوية »للمارونية السياسية« التي كان كثيرون يفترضون أن الحرب الأهلية قد أضعفتها فأخرجتها من ميدان القيادة السياسية وإن لم تُفقدها القدرة على التأثير.
هل دار التاريخ دورة كاملة بين 1990 واليوم؟!
هل عدنا مجددا إلى نظرية: المركز الجبل و»الملحقات«؟!
هل هي عودة الروح إلى »المارونية السياسية« التي توهمت بعض القوى »الجديدة« أنها ألغتها أو أسقطتها أو حلت محلها أو ورثتها، فإذا هي اليوم تطل على الساحة السياسية مجددا وكأنها كانت في إجازة قسرية، ثم رجعت لتكمل مسيرتها وكأن شيئا لم يكن… وبراءة الأطفال في عينيها؟!
إن البيانات الوحيدة التي تتضمن كلاما سياسيا محددا ومواقف سياسية محددة، تتجاوز الأشخاص إلى »المبادئ العامة«، هي التي صدرت كمقدمات لإعلان اللوائح الانتخابية في دوائر جبل لبنان، أو التي تضمنتها الخطب السياسية لأقطاب اللعبة في جبل لبنان.
على سبيل المثال لا الحصر تمكن الإشارة إلى »الخطاب الجديد« لوليد جنبلاط، إضافة الى زياراته التي أسقط فيها »الحرم« عن »قوى الانعزال«، معيداً إليها الاعتبار، ومجددا التحالف معها، ولو انتخابيا، محتفظا لبكركي بموقع مميز استكمالاً لعدة الشغل، بغير أن ينسى التعديل في خطابه السياسي ليتبنى منطقا طالما رفضه عن »حروب الآخرين على أرضنا«.
وعلى سبيل المثال، أيضا، تمكن الإشارة الى التراجعات السياسية الواضحة، بل الفاقعة، التي اضطر إليها »حزب الله« بدءا في جبل لبنان، مرورا ببعلبك الهرمل وانتهاء ببيروت، والتي حولته من قوة تجديد إلى ملحق بقوى التقليد، والتي أخضعته لمنطق سياسي كان يرذله ويقاتل ضده.
وعلى سبيل المثال أيضا وأيضا، يمكن الاستشهاد بالحملة الإعلامية المنظمة التي تصر على إبراز رئاسة الجمهورية كطرف مباشر في اللعبة الانتخابية، لها مرشحوها ولها مخاصموها، لها من تتدخل من أجل إيلاجهم في لوائح، ولها من تضغط لإخراجهم من لوائح، ولها من يحتسب عدد أصوات »كتلتها« في المجلس المقبل.
ومن باب المقارنة، والتذكير بما كان ليس إلا، تمكن الإشارة إلى أن جبل لبنان تبدى »درزياً« في الدورتين الانتخابيتين السابقتين، وشكّل وليد جنبلاط ما يمكن اعتباره »الزعيم الأوحد«، في حين كان النواب الموارنة آحادا أو أفرادا، مختصمين، يصطرعون وسط موجات من الدعوة إلى المقاطعة أو المشاركة بشروط أو الانتخاب حيث هم أكثرية والامتناع حيث هم »أقلية« تتحكّم بهم »أكثريات« من ألوان طائفية أخرى.
ومن باب المقارنة والتذكير بحجم التبدل، لا بد من التنويه بحجم التغيير في موقف البطريرك الماروني من فعل الانتخابات ذاته، ثم من مجرياتها… فبعد ما يشبه الدعوة إلى المقاطعة، أو المشاركة بحدود، نجده في هذه الدورة داعية للمشاركة وصاحب رأي في المرشحين بدءاً ببيروت (حيث لا يجوز أن يمثل الموارنة قومي سوري) الى بعض الشمال وإلى بعض الجنوب فضلاً عن الجبل بما فيه الشوف وبعبدا وعاليه (حتى لا ننسى دار السعد في عين تريز).
لا يساق هذا الكلام من باب الاعتراض، بل من باب تسجيل الظاهرة التي تستحق التوقف أمامها، لاتصالها بتاريخ الصراع التقليدي في لبنان والذي تظل رئاسة الجمهورية محوره الأساسي، والباقي متممات لا بد منها…
وبرغم عواصف الغبار المثارة بين المرشحين المفترضين لرئاسة الحكومة الأولى بعد الانتخابات النيابية، فإن المنطق الذي يحكم هذه الانتخابات مرشحين ولوائح ومحادل وبواسط إنما يتجاوز الرئاسة الثالثة إلى قمة النظام.
و»الديموقراطية المرة« في أساس النظام.
و»الديموقراطية المرة« مولود شرعي »للمارونية السياسية« حتى لو حملت في بطاقة هويتها أسماء الكثير من الآباء والأمهات والأخوال!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان