لم يحدث لأي من رجال التاريخ، بل أبطاله، ان حوكم وأدين وحوسب وأعدم، أحياناً، وتكراراً، كما حدث لجمال عبد الناصر وثورة 23 تموز (يوليو) 1952.
وبرغم أنه قد »غاب«، فعلاً، منذ 28 سنة طويلة، فإن محاولات حثيثة تجري يومياً لاستحضاره وتحميله مزيداً من المسؤولية، ومحاولات حثيثة أخرى تجري يومياً لتغييب ذكره، اسمه، صورته ونهجه، وللتثبت من استحالة عودته أو انبعاثه ولو بعد حين!
وغالباً ما يشترك خصومه الأقوياء ومدّعو وراثته في استحضاره وتشويه صورته، مفترضين أنهم قد يدخلون التاريخ، ولو من باب الخدم، إذا هم نجحوا في إخراجه منه!
في حياته أخذ النفاق السياسي أكثرية الحكّام العرب إليه، وأقلهم إلى خصومته.
ولقد اعترف له الخصوم بخطورة الدور الذي لعبه في تاريخ الأمة، فاستمدوا من خصومته كبراً كان بين مبررات استمرارهم بعده،
أما المنافقون والأدعياء ممّن حاولوا إيهام الناس أنهم قد جاءوهم على طريقه، وأنهم المؤتمنون على رسالته، وأنهم حملة راياته، فسرعان ما انقلبوا إلى ورثة غير شرعيين، وإلى مجرد »أرامل للفقيد«، لم يأخذوا عنه إلا عيوبه، خصوصاً وأنهم باشروا تدمير ما حاول بناءه فعلاً، ثم عرضوا في سوق النخاسة إنجازات الثورة التي تحولت في غمضة عين إلى جرائم خطيرة تتجاوز تخريب الاقتصاد الوطني إلى ملامسة حدود الخيانة العظمى، تارة للدين، وتارة للوطن والأمة، وطوراً لكل ذلك معاً.
لم يكن لجمال عبد الناصر في حياته من الأعداء والخصوم مثل من له اليوم،
الطريف أن العديد منهم يقاتله بشعاراته ذاتها، من التحرر والتحرير إلى وحدة الهدف أو وحدة الموقف طالما تعذرت الوحدة الكاملة، ومن إعادة توزيع الثروة الوطنية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية،
ثم أن أكثريتهم ممن احترفوا تقليده لم ينجحوا مع التقليد إلا في موكبه، وكأن هذا الموكب هو سر العظمة!
.. ولكنهم يفضلون الاختباء داخل السيارات المصفحة على الوقوف في سيارة مكشوفة والتحرك داخل بحر الناس البسطاء المغسولة وجوههم بدموع الأمل بخلاص قريب من ليل التخلف والقهر والجهل والفقر والمرض، والذين طالموا انتشروا وقوفاً شاهرين أذرعتهم وقلوبهم فملأوا الشوارع والأرصفة وسطوح المنازل وأعمدة الهاتف وأشجار التلال والهضاب وبلغوا رؤوس الجبال ما بين ضفاف المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى وشواطئ بحر العرب وبعده المحيط الهندي من حول اليمن السعيد!
إنه يكاد يكون، اليوم، وبعد 28 سنة على غيابه، الأعظم حضوراً وتأثيراً، إن لم يكن من خلال الإعجاب أو التقدير أو التسليم بكفاءة قيادته، فمن خلال الاتهامات الخطيرة التي توجَّه إليه وتحمّله المسؤولية عن كل ما ارتكبوه ويرتكبونه اليوم وسوف يرتكبونه غداً من تجاوزات وانحرافات واستسلام بذريعة أنه لم يترك لهم خياراً آخر غير معاداة العالم كله أو الهرولة للتوقيع على اتفاقات الإذعان!
وهو متهم، في كل حال، مرتين: مرة لأنه حارب، ومرة ثانية لأنه لم يحارب.. تستوي في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب جميعاً!
ولولا شيء من التحفظ لاتهموه بأنه السبب في عداء إسرائيل للعرب!
في أي حال كاد بعضهم »يتهم« جمال عبد الناصر بأنه قد بادأ إسرائيل العداء، وأنه لو صالحها يومها لكان وفّر على العرب الكثير من الهزائم والخسائر، ولربما كان أتاح لهم الدخول شرعاً إلى العصر عبر الباب الغربي المشرق بأنوار العلم والمعرفة والتكنولوجيا.
بالمقابل فإن كل الذين يهربون من مواجهة التحدي الإسرائيلي يتلطون تحت ادعاء أنه قد هزمهم من قبل أن يولدوا، مع أنه قد قاتلها مرات ومرات، وبإمكانات تنقص كثيراً عن الإمكانات التي أتيحت لهم فضيّعوها، مبددين ما كان متوفراً من الثروة الوطنية ومغرقين بلادهم المفقرة بديون هائلة، تحت لافتة »إنقاذها من الأفكار الهدامة«.
كل الذين يهربون من موجبات التضامن العربي، ولو بحده الأدنى، يتهمونه بأنه قد أضاع فرصة أو حلم الوحدة، وقد كان الوحيد الذي تجرأ فحاول، وأثبت بالتجربة أن إقامة دولة الوحدة ليست ضرباً من المستحيل، ولكنها تحدٍ تاريخي يحتاج إلى إعداد طويل وخطوات محسوبة، وقبل الى حكومات منتخبة، في مناخ ديموقراطي، ومع احترام لكرامة الإنسان العربي وإرادته ومصالحه.
لقد واجه فانتصر كثيراً، وهزم مراراً.. ولكنه استمر يقاتل حتى النفس الأخير، لم يهرب من الميدان، وظل يحاول، يبني ويعيد البناء، يعزز في شعبه الإيمان بقدراته فيدفع التضحيات الغالية من أجل النصر الذي كان بعده والذي ضيعه بعض من ادعى التفرد في إنجازه،
أما اليوم فترى كل شعب يبحث عن »دولته الوطنية« فلا يكاد يجدها..
وبرغم كل محاولات التشويه، وكل الأحكام الظالمة، فإن جمال عبد الناصر ما زال يسكن الوجدان العربي، وغالباً كأمنية أو كحلم للمستقبل.
إنه لم يصبح أبداً من الماضي.
إنه في الغد، وليس فقط في الأمس، ولذا يستشرسون في قتال ذكراه، أو يحاولون تصنيمه وتحنيطه وإدخاله مقابر الفراعنة.
ليس عبد الناصر صنماً، ولن يعود العرب إلى عبادة الأصنام.
إنه ينبض داخل الضمائر، كأية فكرة جليلة، ويشع نهجه فيضيء بعض الطريق إلى الغد، بالصح والخطأ، كأية تجربة إنسانية عظيمة.
وحمايته، كإنسان، وكبطل، وكتجربة عظيمة، أبسط واجباتنا لكي نظل داخل التاريخ فلا نغدو مشردين خارجه!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان