لا بد، بداية، من التنويه »بمحاولة التصحيح« أو »الترشيد السياسي« التي أجراها مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، عبر البيان الختامي لدورته العادية الرابعة والثلاثين، على »نداءات« مجلس المطارنة الموارنة وبعض العظات والتصريحات والكلام المرسل متلفزاً والخطب المرتجلة والتي صدرت عن البطريرك الماروني، الكاردينال صفير، في الفترة الأخيرة، والتي تبدت كحملة مدروسة ومنهجية على الوجود السوري في لبنان، وبالاستطراد على الحكم القائم في بيروت بمؤسساته جميعا، والتي ظلمت في سياقها الحاد شعب فلسطين إذ أغفلت ذكر انتفاضته وبالتالي قضيته السياسية، واكتفت بموقف أخلاقي لا يميز بين أطراف الصراع ودلالاته وأبعاده.
فبيان مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك لم يغفل أياً من المسائل التي طرحها البطريرك الماروني، ولكنه اختار منحى الحوار من خلال التوجه بالخطاب، إلى أصحاب العلاقة مباشرة، في بيروت بداية، ثم في دمشق.
فهو مثلاً لم يغفل تضحيات الشعب السوري وهو يذكِّر بضرورة »تصحيح العلاقات بين البلدين على أساس القوانين الدولية«.
كذلك فهو لم يغفل ذكر المقاومة وهو يشكر الله على »أن الجنوب والبقاع الغربي قد تحررا من الاحتلال الإسرائيلي بفضل وحدة اللبنانيين وصمود الأهالي وتضحيات المقاومين«.
الأهم أن البيان لم يغفل ذكر الانتفاضة المباركة في فلسطين، ولم يساو بين الضحية والجلاد، ولم يكتف »بإبداء الأسف على الضحايا البريئة التي تسقط كل يوم على أرض فلسطين« بل انه اعترف لشعب فلسطين بقضيته العادلة »حيث يناضل من أجل استرداد أرضه وحقوقه والمحافظة على مؤسساته الدينية والثقافية الإسلامية والمسيحية.. ونطالب المجتمع الدولي بوقف هذا العنف غير المبرّر بحماية دولية« الخ..
أي أن بيان البطاركة الكاثوليك استدرك ما يمكن استدراكه: فتوجه إلى الحكم في ما يتصل بالوفاق وبتنظيم العلاقة مع سوريا، وتوجه إلى القيادة السورية من موقع الشقيق لا الخصم، وركز الانتباه على نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته العادلة وحمَّل إسرائيل بالإسم مسؤولية جنون القتل الذي يودي يوميا بالمزيد من الفتية والمجاهدين هم أيضا ويلغي احتمالات التسوية..
بالمقابل لا بد أيضاً من الإشارة إلى »محاولة التصحيح« التي أجراها الكاردينال صفير نفسه على كلامه السابق حول الانتفاضة، وقد زلّ به الارتجال أو التسرع فكاد يساوي بين القاتل والشهيد، بين الفتى المسلح بإيمانه بحقه وبدمه وبين الغاصب المعتدي المدجج بأحدث أنواع السلاح وأشدها فتكاً وتدميراً..
إن محاولات التصحيح هذه تنفي شبهة »العنصرية« عن بعض التصريحات والبيانات الصادرة عن المرجعية الروحية التي يفترض فيها بداهة أن تتصدى بالتسفيه والإدانة لمن يتبنى منطقا عنصريا أو لمن يسلك سلوكا عنصريا، فكيف بأن يصدر عنها مباشرة ما قد يتسبب في إثارة الغرائز أو الوقوع في الخطيئة المميتة التي تصور اللبنانيين كلهم أو بعضهم وكأنهم هم أيضا يرون في أنفسهم »شعب الله المختار« وأنهم يمتازون ويتميزون على أقرب أخوانهم إليهم نسباً وتاريخاً ومصلحة : السوريين والفلسطينيين.
فالجدل السياسي ومهما تعاظمت حدته في المعارضة أو الاعتراض يظل مشروعا ومطلوبا كائنة ما كانت عناوينه، وسواء اتصلت بالوجود العسكري السوري، مثلاً، أو بتجاوزات الأجهزة، أو بالعمالة، أو بالخلل في وجوه التعاون الاقتصادي، وصولاً الى تجديد المطالبة بإقامة علاقات دبلوماسية بين بيروت ودمشق، وهي المطالبة التي يعتبرها البعض أشبه باعلان الحرب او فرض الحظر او توقيع العقوبات او نقض »التفاهم التاريخي« القائم بين »الدولتين« منذ استقلالهما وجلاء قوات الانتداب الفرنسي عنهما.
لكن المناخ الذي ساد في الفترة الاخيرة تجاوز الاعتراض السياسي، والنقد العنيف والرفض الصريح لاي نوع من »الوجود« السوري: بدءا بالعسكر والنفوذ السياسي وصولا الى الطلاب الجامعيين (واعدادهم لا تذكر) وانتهاء بالعمال الذين اوصلتهم البغضاء قبل الغرض السياسي الى ما يقارب نصف الشعب اللبناني عددا (مليون ونصف المليون!!).
وفي بيئات عديدة أطلقت او انطلقت بالتحريض اليومي المستمر حملة شعواء من الكراهية تحض على الانتقام، وتحرض على تحرير »الجنس اللبناني« الصافي من لوثة التخلف والتبعية لمن هم ادنى،
ومن اسف فإن هذه الحملة اتكأت، في الكثير من مقولاتها ومن طروحاتها (الفكرية) الى الموقف السياسي الذي صدر ملتبسا او واضحا غير مرة عن بكركي، وهنا وجه الخطورة.
ومؤكد انه ليس هناك من عاقل واحد يصدق او يؤخذ باتهام بكركي بأنها يمكن ان تطلق مثل هذه الريح العنصرية او تغذيها، سواء ضد السوريين او ضد الفلسطينيين، او ضد الشعبين الجارين والشقيقين معاً،
ان لبكركي مكانة معنوية ممتازة، في لبنان وفي دنيا العرب، ثم انها كمرجعية روحية لا يمكن ان تتنكر لانتماء رعيتها في انطاكية وسائر المشرق ومن ثم اللبنانيين عموماً، كما لا يمكن ان تأخذها عاطفة او يتحكم بها الغرض فتسمح لاية جهة خارجية، ولا سيما لاسرائيل، بأن تستغل موقفها وتوظفه ضد مصلحة لبنان وشعبه وأهله الاقربين.
***
اما وقد تمت »محاولة التصحيح« عبر بيان مجلس البطاركة الكاثوليك فقد بات ممكناً ان يرفع الصوت بالتنبيه، بل وبالتحذير، من ريح السموم التي تطلقها حملة الكراهية هذه التي تتخذ ابعادا عنصرية، اكثر فأكثر، لا سيما في اوساط شبابية ولدت في ظل الحرب ونشأت في ظل المجادلات والمنازعات التي اتخذت منحى طائفياً ومذهبيا فغيبت قضية الوطن والمواطن وجعلت الجميع اسرى التعصب والجهل بالآخر وبالتالي الخوف منه.
إن الكثير من اللبنانيين يغترون بنجاحهم كأفراد فيرون أنفسهم عباقرة الكون، ثم انهم ميالون بطبعهم الى الزجل، وقد طالما أخذهم التشاطر الى افتراض القدرة في توظيف الآخرين لخدمتهم، أو في الانتقال من الاستسلام لاسرائيل بالموافقة على اتفاق 17 أيار الى التباهي بالمقاومة الباسلة، ومن ثم المطالبة بانسحاب المقاومين من الجنوب فور إنجاز التحرير ومن قبل ان يتم العدو الاسرائيلي جلاءه عن الارض المحتلة… لينتهي الامر الى ما يشبه اتهام هؤلاء بما لم تتهم به اسرائيل طوال فترة احتلالها، من تهديد للسيادة والاستقلال الى تشكيلهم مصدر خطر على من ساهموا في تحريرهم من اخوتهم.
أمثال هؤلاء يقفون على حافة الشعور بشيء من التفوق الذي لا يحتاج إلا الى »قرادية« صغيرة فيتحول الى شعور بالتميز وجهه الآخر التباهي على جيرانه الأقربين وافتراض الرقي فيه والتخلف فيهم الى آخر مواصفات »التميز العنصري«.
ويعلمنا التاريخ انه من السهل اطلاق موجات من الشعور بالتفوق، وتمييز الذات والتباهي على الآخر، ومن ثم ممارسة نوع من »العنصرية«، لكن النتائج تجيء مدمرة… خصوصا في بلد صغير وفقير وغارق في الديون، وما زال يعاني آثار التمزق والاندفاع في مغامرات قاتلة كادت تذهب بوحدته وبمقوماته كافة وبوحدة كل بيت وكل مذهب وكل طائفة فيه ومن ثم بكيانه السياسي.
كذلك فهو يعلمنا ان رياح العنصرية إنما تضر بلبنان وتؤذي اللبنانيين اكثر مما تؤذي أشقاءهم وأهلهم العرب، وبالذات منهم السوري والفلسطيني.
ويعلمنا اخيرا ان العنصرية تبدو وكأنها عدائية موجهة الى الخارج ثم سرعان ما يتبين انها انما تتجه الى الداخل فتفجره ايضا، بل اولا، وتدمر العلاقات بين الأخوة وتتسبب في تدمير »الكيان«.
غدا: العنصرية و»الجبل لبنانية«
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان