الحوار ترف لا يطلبه ولا يطيقه العرب جميعù، مع ملاحظة أن اللبنانيين منهم لم يعودوا يعيشون حالة الاستثناء التي طالما تميّزوا واشتهروا بها.
لقد بات الحوار في »شؤون« لبنان متعذرù لأن أطرافه المحليين أخطر من أن يقبلوا رأيù مختلفù ولو من موقع »الحليف«،
وكان أقصى الطموح، في الفترة الأخيرة، أن يقبل أعضاء »الثلاثي المرح« الحاكم فتح باب الحوار في ما بينهم فقط، وداخل غرفة مغلقة، بقصد الوصول إلى اتفاق محاصصة من أي نوع وعلى كل شيء أو أي شيء!
والحمد ” أن ذلك قد تمّ، ولو ثنائيù، أي بين كل رئيسين في غياب (وعلى حساب؟) الثالث، والأمل كبير في أن نعيش قريبù فرصة العمر بأن نسمع من الإذاعة أن الجبابرة الثلاثة قد تلاقوا فتحاوروا واتفقوا، ولو بالأمر، وأنه يمكن لهذا المواطن القلق أن يطمئن أخيرù، ولو إلى حين، فينام!
إذن فقد أنجز الحوار المفتقد في لبنان، وتحققت أمنية غالية على قلوب بنيه، ولم يعد ثمة من ضرورة للنقاش في شجون حياتهم اليومية، إذ أن ذلك قد يهدد الاستقرار الذي ينعمون به، وقد يفاقم من خطورة الأزمة الاقتصادية المتوهمة أو المصطنعة والتي لا ينفع في علاجها إلا الصمت وإشاعة الأرقام المغلوطة، واتهام مَن يقارب الرقم الصحيح بأنه »متآمر على السلم الأهلي«…
اللهم لا اعتراض.. ونتمنى أن يكون ما نسمعه (في العلن) صحيحù، برغم أن أصحاب العلاقة من الرؤساء والكبراء لن يصدقوا أننا صدقناهم!
ما علينا.. لقد أغلق باب الحوار بعدما حقق أغراضه السامية حاملاً كالعادة، الاتهام للاعلام والصحافة منه على وجه التحديد بالتخريب، ملوحù بقانون جديد بعقوبات جديدة لمن يتجرأ فيتقوَّل على الرؤساء إنهم مختلفون على أي أمر، بدءù بالعملية السلمية وانتهاءً بربطات العنق وألوانها والأصناف!
… لكن النجدة سرعان ما أتت من هذا المبادر الذي لا يرتاح ولا يريح، الممتلئ حيوية وإيمانù والذي لا يعرف اليأس أو الكلل: الدكتور خير الدين حسيب.
وهكذا ركبنا الطائرة إلى الدوحة، عاصمة قطر، للمشاركة والاستمتاع، ولو من موقع المستمع، إلى رهط المتحاورين في »ندوة العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل«. التي ينظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالاشتراك مع جامعة قطر التي تحمّست للمبادرة فحققت اللقاء.
وذاك، أيضù، حوار كان ولعله ما زال متعذرù بل ومحظورù، ربما بداعي الحرص على »مستقبل الشرق الأوسط الجديد« كما حلم به وكتب عنه شيمون بيريز، أو الحرص استطرادù على اتفاقات الاذعان المتوالية بين معظم الحكّام العرب والعدو (السابق) إسرائيل!
* * *
الحوار ترف لا يطلبه ولا يطيقه العرب، والمعني هو الحاكم منهم.
وهم في هذه الأيام بالذات يفتقرون، عمومù، إلى روح الحوار ولو مع الذات. إنهم يعتصمون بالخرس البليد، ولو اتخذ أحيانù شكل الثرثرة الفارغة التي لا توضح موقفù ولا تبرّر سلوكù طالما اعتبروه (في الماضي) مشينù!
إنهم يهربون من شعوبهم. يخافون المساءلة والحساب ولا يملكون غير أشخاصهم حجة قاطعة على سلامة تصرفهم!
وعلاقة الرسمي العربي بالآخر، كل »آخر« تتراوح بين مستويين:
} إما التبعية المطلقة والالتحاق بغير شروط وتنفيذ ما يُطلب منه وغالبù من قبل وربما من دون أن يُطلب منه، وهذه هي حال العرب عمومù مع الصديق والحليف الكبير الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك مع الشريك الكبير إسرائيل، (والاستثناء محدّد دائمù ومحدود)..
} وإما التعالي والرفض والتذبذب داخل التاريخ السحيق هربù من الجغرافيا الناطقة والحاكمة، أو الخروج منه بادعاء الحرص على الجغرافيا، وفي الحالين التورّط في إنكار الوقائع الثابتة ومنها الجغرافيا والتاريخ والمصالح المتشابكة والدين الجامع والتراث الثقافي المشترك، وشيء من الروابط شبه الأسرية، كما هي الحال بين العربي والعربي، أو حتى بين العربي والمسلم عمومù ولو بنسبة أقل.
وفي حالة إيران تتجسد المأساة العربية كاملة: يوم كانت تحاربهم ومن موقع الخصم المتحالف مع أعداء الحق العربي والحلم العربي بالحرية، هادنوا شاهها، ومشى بعض حكّامهم في ركابه، وناصروه ضد إخوتهم ونصروه ضد شعبه،
.. ويوم جاءت الثورة الإسلامية بإيران إليهم حليفة وشريكة في المصير، حاربوها وحاصروها وشهَّروا بثورتها وإسلامها وشعبها، وكادوا يخرجون على الإسلام وعلى العروبة لما بينهما من صلة الرحم.
* * *
منذ تلك الأيام المباركة في بدايات العام 1979 وحتى اليوم لم ينتظم أبدù حوار سويّ بين إيران الثورة الإسلامية والعرب الهاربين من الثورة كما من الإسلام والعروبة، أي من أنفسهم.
لقد أشعرتهم بفظاعة ما هم متورطون فيه، وكشفت تقاعسهم واستقالاتهم من أبسط واجباتهم الوطنية والقومية.
تصدت ل»الشيطان الأكبر« وقاتلته حين جاءها غازيù فهزمته، بينما هم يهربون من مواجهة »شيطان أصغر« إلى الاستسلام بغير قيد أو شرط فيفتحون له بلادهم على مصراعيها ويتركون له أن يحدّد لهم مستقبلهم فيها،
ومنعù للاستطراد يمكن القول إن العرب أنكروا على الإيرانيين أن يخاطبوهم باللغة التي تعلّموها، إلى حد كبير، منهم، وأن يتبنوا الشعارات التي أخذوها عنهم،
مَن يمتنع عن محاورة الشقيق والصديق ينتهي رهينة عند العدو.
والمؤسف أن حالة الارهاب الرسمي قد عطّلت ليس فقط الحوار بين الحكومات العربية والثورة الإسلامية في إيران، بل بين الإيرانيين عمومù والعرب عمومù، بمن في ذلك نخب المثقفين والعاملين أو الحالمين بمستقبل أفضل.
لقد دعت طهران آلافù من العرب، بكل أصنافهم، ومن كل المستويات والأعمار، لكن الحوار لم ينتظم سياقه، وظل الحديث انصاف جمل تنتظر من يكملها فيكسبها المعنى.
لا طهران نجحت تمامù في صياغة سياسية ناجحة لخطابها الديني، ولا هي استطاعت أن تطمئن العربي الذاهب إليها بطلب العلاقة النضالية إلى أنها حليفه من أجل غد أفضل للطرفين أكثر منها ديَّانù له على ماضيه وحاضره البائس.
لم يقبل العرب الذين كانوا قد ارتدُّوا على فكرة الثورة يقاتلونها بالسلاح، وغادروا الإسلام باسم العلمانية التي يتطلّبها العصر، أن تجيئهم الثورة باسم الإسلام وعبره من طهران الخميني… فكان أن مدّوا الحرب إلى الإسلام ذاته، وطاردوا القائلين به بديلاً في شوارع عواصمهم بالرصاص.
ولم تقبل طهران القائلين بالقومية من العرب، لأن إسلامها يجبُّ القومية أو القوميات بدءù بفارس، التي صارت دار الإسلام، وانتهاءً بآخر معقل للقومية التي كانت دائمù في نظر الإسلاميين بدعة أنتجها الغرب المسيحي وتسوقها الآن الحركة الصهيونية لتعميم الإلحاد!
كان المشترك عظيمù، لكن أصحاب المصلحة في بعث الوعي به كانوا في الطرف العربي أضعف مما يجب وفي الطرف الإيراني أقوى مما يجب،
أما حاجة كل من الطرفين إلى الآخر فهي أعظم، لكن المفارقة في التوقيت: فأحدهما آت برايات الأمس إلى الغد محاولاً إعادة صياغتها بما يحفظ قداستها من دون أن يضيع الاتجاه الى العصر، والآخر ذاهب من الحاضر إلى المجهول بدعوى أنه يريد غده خارج أمسه وليس كامتداد له.
* * *
الحوار ترف لا يطلبه ولا يقدر عليه العرب،
لكن خير الدين حسيب، الآتي من الموصل، والمستوطن القومية، والمقيم في المستقبل العربي، يحاول أن يطلقه كلما توفرت فرصة لاطلاقه: مع الذات بداية ومع الأقرب فالأقرب وصولاً إلى البعيد.
وها هي الدوحة توفّر المناخ الصحي عبر جامعتها الفتية،
والنجاح رهن بالمتحاورين ومدى تأثيرهم… بعد العودة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان