لكأنه اختار موعد رحيله هذا الشهيد الحي الذي استمر يذوب حتى انطفأ تماماً بالامس، في ظلال الذكرى الخمسين لثورة جمال عبد الناصر، “البطل” الذي اتخذ منه مصطفى معروف سعد مثله الأعلى بوصفه قائد النضال العربي ورمز الصمود والعمل من أجل الوحدة العربية باعتبارها الطريق الأقصر إلى المستقبل الأفضل.
“بيت الشهادة” ولود: في البدء، وقبل 27 سنة، الأب “معروف”، المقاتل في فلسطين من اجل لبنان وسائر العرب، والمقتول غيلة وهو يقود تظاهرة سلمية من اجل حقوق بسطاء الناس من الصيادين في صيدا الباسلة، والذي كان اغتياله إيذاناً بانفجار الحرب الاهلية التي ستمهد الطريق للاجتياح الاسرائيلي في حزيران 1982، ثم الطفلة “ناتاشا مصطفى سعد” ومعها نور عينيّ أبيها مصطفى، بعد عشر سنوات من اغتيال ابن صيدا البار ورمز نضالها الشعبي والذي تداخل فيه دائماً الوطني مع القومي والتقدمي.
“بيت الشهادة” ولود، وصيدا عاصمة الجنوب ولاّدة: “حاربت السلطنة العثمانية، ووقفت في وجه الانتداب الفرنسي، قادتها قالوا: لم نحارب الباب العالي ليحل محله المندوب الفرنسي”، على ما قال “أبو معروف” الذي غادرنا امس.
ومصطفى سعد كان رجلا عادياً كالناس الذين أحبوه وحموا فيه تراثهم النضالي. لم يكن “ابو معروف” بارع في التنظير وتدبيج المقولات الثورية. كان يتبع بديهته، هو الوطني بالسليقة، فيصل الى الموقف الصح.
ومثل كثير من الرجال فقد صنع له “موقفه” مكانته كممثل شرعي لصيدا وليس براعته في الكلام او “نفوذه” الذي يوفر الخدمات لمحتاجيها، او سعة الرزق التي يمكن ان تلعب دور ستّار العيوب لصاحبها كما للآخرين..
ولن تكون صيدا ومعها الجنوب وحدهما في حداد، اليوم… فلبنان كله شريك لصيدا والجنوب في الحداد على الشهيد ابن الشهيد “معروف” ووالد “ناتاشا”، الشهيدة.. وكذلك كل الذين ما زالوا على ايمانهم بوطنم وبعروبتهم، يرفضون الاستسلام للعدو ويواصلون المقاومة، بأشكالها كافة، في مختلف ديار الارض العربية.
“فأبو معروف” عاش وناضل بين الناس ومعهم. نشأ بين الناس وعرف همومهم. لم يفترق عنهم يوماً ولم يبتعدوا عنه لحظة، وكانوا نور عينيه بعدما اطفأتهما محاولة الاغتيال بالسيارة المفخخة في العام 1985، وظلوا يحتضنونه وهو يعاني الآلام المبرحة على امتداد سنوات اربع وحتى لحظة انطفائه، امس.
ولقد ظل مصطفى سعد على ايمانه بالمسلّمات التي اخذها عن ابيه، وعن مدينته الباسلة صيدا، وعن جنوبه المقاوم، فاستمر يحذر من المشروع المذهبي ويطالب بفصل الدين عن الدولة، ويؤكد على انتماء لبنان القومي، ويساند نضال شعب فلسطين من اجل التحرير: “لن يكون هناك سلام مع العدو الصهيوني بينما فلسطين محتلة والجولان محتل وبعض الاراضي اللبنانية محتل.. فصراعنا مع اسرائيل صراع وجود، وهو مستمر حتى لو فرضت علينا التسوية”.
كذلك فقد بقي مصطفى سعد مخلصاً للناس البسطاء والطيبين والفقراء، يحمل مطالبهم ويحذر من “ثورة الجياع”، كما يحذر من “ثورة الاحرار الذين يقدسون الحرية”.
و”بيت الشهادة” في صيدا ولود…
رحم الله الشهداء، وحفظ صيدا راية نضال للوطن والأمة.
“السفير” 26 تموز 2002