لم اعرف امرأة شغوفة بالإنتاج المتميز في مسرح العرائس، ومربية فاضلة في بيتها لأبنائها الثلاثة: الزوج، بهجت عثمان وولديه هشام ووليد، قبل، ذلك، وبعد ذلك، كانت بدر حماده، أو بداديرو كما كان يناديها بهجت، ام العاشقات والعشاق.
ولقد عشت في بيت بهاجيجو في المنيل أياما طويلة.. اذ كلما وصلت ونزلت في فندق، يأتي بهجت وهشام ووليد فينقلان “عفشي” وما تيسر من ادوات الحلاقة ومعجون الاسنان، إلى منزلهم الدافئ، حتى صرت “خامسهم” في البيت!
كانت بدر حماده أبرع صناع “العرائس”، التي كان لها مسرح خاص في القاهرة له جمهوره النخبوي.. ولقد سمع به احد متعهدي الحفلات من اللبنانيين، ذات مرة، فأصر على استقدامه إلى بيروت، مفترضاً أن “العرائس” صبايا يخلعن الالباب، فلما وصلت العرائس إلى المسرح في صناديق وبدأ العمال في استخراج الدمى منها، اصيب المتعهد بخيبة امل مريرة بحيث انه لم يحضر الافتتاح ولا أي حفلة من الحفلات القليلة التي قدمت على المسرح وكان جمهورها عائلتي مع بعض الاصدقاء والمروج بهاجيجو.. والدمى!
على أن بيت بهاجيجو برعاية بدر حماده، كان حافلاً بأسرار العشاق، ودموع العاشقات.. ولطالما خجلت من الدخول، او سارعت إلى احدى الغرف الداخلية حتى لا أفسد لحظات الاعتراف الحميم، او كفكفكة دموع العشاق.
كان أبرز العشاق صموئيل هنري الذي عرفناه في ما بعد في شخص الفنان النحات الممتاز آدم حنين، وحبيبته عفاف شقيقة الكاتب الراحل علاء الديب وكذلك بعض زملاء بهاجيجو وبعض صديقات بدر، والكل يجد في ذلك البيت كرسي الاعتراف والوسيط المناسب لتجاوز العقبات (كاختلاف الدين والمستوى الاجتماعي).. ولعل حكاية آدم وعفاف هي أحد عناوين نجاح “بيت الحب” لصاحبته الصائغة الراقية بدر حماده.
وكان من بينهم، ايضاً، نسيم هنري، شقيق آدم، والذي أحب فتاة اجنبية رفضت أن تأتي معه للحياة في مصر.. ثم قرر، ذات يوم، أن ينسى حبها، فأخذ يتصورها عند نهوضها من النوم مشعثة الشعر، تسعل، وتنده على الخادم بغضب.. وهكذا حتى “تخلص” منها مؤقتا.. ليعود فيتزوجها بعد سنوات طويلة من العشق المتصل!
أبدعت بدر حماده في رسم العرائس وحبك القصص المستوحاة من التراث الشعبي.. وكان بينها العاشق الفارس، وليلى التي لم تنسَ قيس، برغم اضطهاد ابيها له، كما تضمن نتاجها قصص حب جديدة بغزل رقيق يغنيه بعض المطربين الواعدين.
كان بهاجيجو يغب الحياة غباً: يبدع ويجدد في انتاجه. يرسم الكاريكاتور الممتاز بفكرته التي تثير من التفكير أكثر من الضحك، ثم في رسومه للأطفال، في بعض المجلات الخليجية، ويبرر استمراره في هذا العمل بأن الطفل يسكنه ويريد حقه من انتاجه.. يسهر حتى الصباح، ويرفض أن يرسم اصدقاءه “لأنني احبهم كما هم..”.
.. وحين غادر بهاجيجو، بيروت، في آخر زياراته لها، كان يرفض الصعود إلى الطائرة، كأنما ثمة هاجس في داخله يقول انه لن يعود اليها..
وبالفعل، كانت تلك آخر رحلة لبهجت عثمان خارج مصر..
وحين ذهبنا، زوجتي وانا، لتعزية بدر حماده وهشام ووليد بهجت، اخذنا نعيد تكرار كلمات التعزية مع تأكيد عواطفنا الحرى تجاه البيت بكل من فيه، وضرورة أن نكمل حياتنا التي هي من عند الله، وانها قادرة ـ بإبداعها ـ على تعويض غياب بهجت، فقالت برنة حزن عميق: دي عايزه عمر ثاني.. عمر ثاني.
بهاجيجو يعيش معنا في بيوتنا، في مكاتبنا، ومعه بدر حماده وهشام ووليد.. وهو معها، وهي معه، وكلاهما عصي، بما أبدع، على الموت!