الفساد مسألة سياسية، وكل ما هو سياسي يتعلّق بالدولة. يتوسع بضمورها، يضمر بتوسعها عمودياً وأفقياً. عندما يسيء أحدهم التصرف في مال صديق له أو شركة يشتغل فيها، تعتبر المسألة أخلاقية وتخضع للقضاء ويلاقي المذنب جزاءه.
الفساد يطال المال العام. هو مسألة سياسية لأنه يطال المجال العالم. في المجال العام، سياسيون واداريون همهم الخدمة العامة لقاء راتب. في المجال الخاص، رجال أعمال همهم الربح، مهما كان. الربح لديهم ذو أولوية على الخدمة العامة. في ذلك تناقض بين المجالين، مما يجر الى تناقض في معالجة أساليب الإساءة في كل من المجالين. الفساد في المجال العام يحارب بالسياسة. الفساد يعالج في اطار الدولة، كما توجد، بقيادة سياسية تعرف وتفهم وتقصد قيادة الناس لتشغيلهم. الأخلاق تولد مع الانسان أو يتدرب عليها بالتربية، إذا كان ذلك ممكناً. الأخلاق مسألة شخصية. الفساد مسألة عامة، بالتالي سياسية.
ينتشر الفساد مع ضمور الدولة أو تلاشيها. من هنا، كانت مرحلة هيمنة شعار “جيش وشعب ودولة” من أكثر المراحل فساداً في لبنان، إذ أغفلت الدولة وأدى الأمر الى فلتان في أجهزة الدولة، وفي الموانئ والمرافئ والمعابر على الحدود. لم يكن هناك نقص في الدولة. ولم يكن النقص طبيعياً حين يحدث، بل كانت الدولة تضمر وبالتالي يضمر دور أجهزتها، وتتراجع قدرتها على الضبط. تبدأ محاربة الفساد من رؤوس السلطة السياسية وتتسرب الى المستويات الأدنى. يقول المثل الشعبي الفلاحي “الثلم الأعوج من الثور الكبير”. تغيب الدولة في بقعة. ينتشر الفساد في تلك البقعة. يضعف أثر الدولة على مساحة البلد. ينتشر الفساد على مساحة البلد.
الفساد سوء وإساءة في إدارة موارد الدولة، وممتلكاتها، وتجهيزاتها. الرشوة والسرقة تدخل في عداد ذلك. لا ينشأ المرء فاسداً، ولا يدرّب بالتربية على أن يكون كذلك. النظام السياسي يؤدي الى ذلك. الحل السياسي ليس سحرياً. مطلوب وزراء أو مدراء بإشراف الوزراء يديرون البيروقراطية في مؤسساتهم ليتراجع الفساد أو يزول. الحل السياسي أمر سهل. شرط أن تريد القيادة السياسية للبلد ذلك، أو ان تفهم ذلك. الآفة الكبرى هي المجيء بوزراء ومدراء لا يريدون ولا يفهمون ولا يعرفون كيف يكون العمل المجدي.
الفساد ليس قراراً يتخذ في السر وحسب. هو أسلوب عمل. أسلوب عمل يتعلق بالسياسة أولاً، وبالسياسات ثانياً. يستحيل أن يكون على رأس الوزارة، أية وزارة، فاسدون إلا ويبقى الفساد تحتهم وفي الأجهزة البيروقراطية التي يرأسونها. التجارب الشخصية تدل على ذلك. هناك من يقول “ما في دولة”. الدولة توجد ولا توجد. عندما تكون توجد معها هيبتها، والهيبة لا تعني القوة ومظاهر الأمن والسيطرة والهيمنة، بل توجد بالقيادة التي تحترم البيروقراطية التي تعمل معها، والهيبة المعنوية التي تفرض نفسها، والنقاش والحوار اللذان يؤديان الى الانسجام بين القيادة وبين من يعملون تحت أمرتها. التجارب الشخصية دليل على ذلك، وكتب الإدارة تؤكد على ذلك. وما كتب الإدارة إلا حصيلة تلك التجارب.
فساد السياسة يقود الى فساد الإدارة؛ لا العكس. الفساد لم يتسرب من تحت الى فوق. بل يتسرب من فوق الى تحت. التسرب معظم الأحيان هو باتجاه الأدنى. إذن معالجة مسألة الفساد هي بالدرجة الأولى معالجة أمر الدولة، ليس بالقول “ما في دولة”. هذا خطأ ذريع. الدولة موجودة سواء أنكرنا ذلك أم لم ننكره. شكل الدولة هو ذريعة هؤلاء وطريقهم للإنكار. ربما منعتهم تحالفاتهم من التخلي عن هذا الإنكار، وذلك يتطلّب تعديل رؤيتهم للدولة كي يزول الفساد الذي يحاربونه. ربما اعتبر جماعة 14 آذار أن مهمتهم نهب الدولة وسرقتها، لكن 8 آذار توفر لهم الاطار العام لذلك. ليس الأمر العبور الى الدولة التي لم تكن موجودة بل تغيير سلوك طبقة السياسيين فيها.
أما الآفة الكبرى، آفة الآفات، فهي شراكة القطاع الخاص والقطاع العام. يعتقد أهل القطاع الخاص أنهم أذكى وأشطر بالإدارة من أهل القطاع العام لأن لديهم المال، ولأنهم يستطيعون الاستخدام والطرد من الخدمة على كيفهم، بالأحرى بعشوائية تامة، فيخضع العاملون لهم خضوعا كاملاً، فيعملون بإنتاجية أكبر. يعتقد أصحاب المال، الذين يدعون لشراكة القطاعين العام والخاص، أن المال الذي يحوزونه يجعلهم يتمتعون بذكاء استثنائي يفوق اينشتاين ونيوتن وأرسطو وأفلاطون من العلماء والفلاسفة الذين أدى اهتمامهم بالعلم والفلسفة الى جني القليل من المال. يعتقد أهل المال، حتى ولو كانت ثرواتهم نتجت من السرقة أو الابتزاز أو القوادة، أن مالهم الكثير يعكس درجة ذكاءهم العالية. هم طبقة الله المختارة، كما يعتقد شعب ما، خاصة اليهود. إذا كانوا أمة كما يقولون، أن ما لديهم من صفات جعلتهم شعب الله المختار. فالشراكة بين القطاعين الخاص والعام تجعل أهل القطاع الخاص ذوي سطوة على بيروقراطيي القطاع العام المساكين الذين يعملون براتب محدود في خدمة الدولة والمجتمع.
في القطاع الخاص الأولوية للربح والخدمة تأتي بعدها؛ في القطاع العام الخدمة هي الأولوية الأولى حتى ولو كانت الرواتب مزرية. هناك تناقض صريح في المصالح وفي الأهداف. من غير المعقول تلقّي حماسة القطاع الخاص للشراكة مع القطاع العام إلا على أساس اعتبار أن القطاع الخاص يريد السيطرة على القطاع العام وجعله جزءاً من القطاع الخاص حتى ولو بقي يحمل اسم العام. حالما تحصل الشراكة يكتشف مدراء القطاع العام أن أصحاب القطاع الخاص سلموا العمل لمدراء أنداء لكن برواتب أعلى، “على الأرجح” برغم التمتع بمؤهلات أدنى. الدعم بالرأسمال يعلي من يشاء ويدني من يشاء. في النهاية، هي مشكلة سياسية أن يتخلى أهل السلطة عن البيروقراطية ويرمونها لقمة سائغة لأنياب أهل القطاع الخاص من أصحاب الثروات. هو الفساد بعينه: إهمال شأن الدولة وجعل أجهزتها لا تشرف على القطاع الخاص كما يشرف العسكر ورجال الأمن على المجتمع، بتعسف أحيانا، أو في غالب الأحيان. الفساد هو في تخلي أهل الدولة عن الدولة. كل ذلك تحت شعار أن القطاع الخاص مدير جيد وهو الأمر الذي يسوّق له أهل الطبقة العليا بكل زهو واعتداد واحتيال وابتزاز للدولة، وبدعم من سياسيي الدولة الكبار. الفساد الأكبر هو في وضع القطاع العام تحت أمرة، أو رحمة، القطاع الخاص، في تخل تام عن مهام الدولة التي يجب أن يكون دورها هو قيادة المجتمع.
أن تسود النيوليبرالية مدعية أنها تعرف الإدارة أكثر من البيروقراطية هو بمثابة القول الحديث الشريف معدلاً: وجعلنا من المال كل شيء حي. عندما يصبح المال هو القيمة العليا، يصير هو مصدر القيم بعد أن كان تاريخياً تعبيراً عن القيم. مع فجور البورجوازية العليا واستعلائها تنقلب الموازين، تنقلب موازين القيم حتى المتعلقة منها بالشرف والكرامة. تداس كرامة بيروقراطية الدولة، تداس كرامة الدولة، لصالح أصحاب المال الكبار. محاربة الفساد تقضي برفع الحصانة عن القطاع الخاص وسلطة المال، ونزع صفة الذكاء الخارق عن رأس المال وأصحابه. في النهاية، يرفض أهل القطاع الخاص الاستثمار في أي من المشاريع العامة من دون ضمانة الدولة. هم يحتاجون الدولة، لكنهم يحتاجونها أن تكون تحت إدارتهم.
هناك دولة، يريدونها لهم، وهي لهم. هذا هو الفساد. فقط لمعلومات فرسان محاربة الفساد، يكون قطع دابر الفساد بجعل الدولة تعمل من أجل المجتمع لا من أجل الطبقة العليا من أصحاب المال. قطع دابر الفساد يكون بأن تجعل الطبقة السياسية مهمتها الأولى والأخيرة خدمة المجتمع لا خدمة أولياء أمرها من أصحاب المال. لم يكن صدفة أن البرلمان الحالي فيه عدد كبير من الرأسماليين ويخلو تقريباً من المحامين الذين هم أكثر فهماً بالتشريع والقانون. تدين الطبقة السياسية نفسها حين تحيل بعض أعضائها وبعض البيروقراطية على القضاء ولا تحيل إليه أحداً من أصحاب المال دافعي الرشوات ومزوري العقود. المسألة ليست غياب الدولة (ما في دولة) بل تجييرها لصالح أصحاب المال الكبار. الدولة موجودة وفاعلة لكنهم يجعلونها تلعب دوراً ليس لها. الفساد الأكبر ليس بالمرتشين الصغار بل هو في رؤية الطبقة السياسية للدولة ومهامها. على كل حال، هم يجنون مبالغ كبرى من فساد الرؤية هذه.
الدولة أمر لا بد منه في كل مجتمع. مهمتها خدمة المجتمع وليس فقط ضبطه تحت ذريعة الأمن والقضاء. أطل علينا في السنوات الأخيرة أسلوب جديد في مهانة الدولة وذلك بواسطة ما يسمى الإصلاح عن طريق القضاء. هو نوع من الإرهاب تمارسه الدولة. إرهاب تمارسه السلطة على بيروقراطية الدولة، بل على الدولة ذاتها. إهمال أمر الإنجاز في خدمة المجتمع لصالح استقامة واستعلاء قضائي عند جيل من الطبقة السياسية للسيطرة على الدولة التي ينكرونها. الاخبارات والدعاوى القضائية توفر الجو لذلك. الثوار وجمعيات المجتمع المدني يشاركون في ذلك. مسرح عبثي.
تحمي الطوائف أكباشها مهما فعلوا ومهما ارتكبوا. تحول الطائفية جماعات الطوائف الى قطعان يجرون وراء “الأكباش” الذين يقودونهم. يكفي أن يزور أحد الأكباش هيكل المرجع الديني للطائفة، وأن يعلن هذا ثقته بالمُومَأ إليه لكي يحوز صك البراءة قبل وقوفه تحت قوس المحكمة. الأرجح ان المُومَأ إليه يستخدم هيكل الدين مانعاً من أجل الحماية. يتخذ المرجع الديني صفة القضاء قبل الدخول الى المحكمة. تتراجع المحكمة، أو بالأحرى، تجبن عن القيام بدورها. بالتالي لا يحال الى المحكمة سوى صغار المرتشين ومرتكبي الجرائم المالية، وصغار ممارسي ابتزاز الدولة. كبارهم تحميهم حظوة المؤسسة الدينية – الطائفية – المذهبية؛ سمها ما شئت. ربما صح القول أن كبار أصحاب المال تكون ثرواتهم بحجم فسادهم. وما ذلك إلا بفضل طائفية تتشابك مع السياسة.
الفساد ليس حالة مرضية معزولة يمكن استئصالها بعملية جراحية (إصلاح إداري). الفساد هو حالة سياسية تفرض نفسها على المجتمع، ليصير حالة اجتماعية. عندما يفسد الكبار، يفسد الصغار. ليس الأمر “كما تكونوا يولى عليكم”، لا بل هو “كما يولى عليكم تكونون”. النظام السياسي هو وعاء الفساد. إصلاح النظام السياسي ليس صعباً.
كان الفساد في السنوات الأخيرة حيزاً كبير في خطاب أهل السياسة. كثر الكلام عن الفساد وقلّ (تناقص) عن الإنجاز. كهرباء الدولة مقطوعة أو شبه مقطوعة، منذ سنوات طويلة بينما الحديث عن الفساد يصم الآذان. السؤال الكبير الذي يتبادر الى الذهن هو لماذا الفساد دون إنجاز. الحديث هنا عن إنجاز ما يفيد الناس من بناء وإعمار مرافق عامة أصاب اللسان كلل من تعدادها. يبدو أن التناقض الحقيقي هو بين الفساد (أو محاربة الفساد) وبين الإنجاز. وليس بين الفساد والاستقامة. الاستقامة لا تدخل في السياسة. الفساد في جوهر السياسة.
طبقة سياسية هتكت معنى السياسة عندما دمرت الكهرباء وسمحت بالخصخصة عن طريق مولدات الأحياء والقرى، وعندما سمحت بخصخصة المياه عن طريق الشاحنات الخاصة التي تزود أماكن السكن بالمياه. وعجزت عن حل مشكلة النفايات. هناك معنى الدولة. أفسدت كل قرار. أفسدت الدولة والمجتمع. لم يعد الإنجاز في أمر اليوم. صرنا مجتمعاً لا يعمل كي لا ينجز. لا يقدم على الإصلاح لأن لا شيء بنظر الطبقة السياسية قابل للإصلاح. حتى ثقتنا بالتقدم صارت متزعزعة. قادة كلما ظهروا على الشاشة تبدو وجوههم وتصريحاتهم ومباحثاتهم في الأوضاع الراهنة مثل “أوراق نعوة”.
يجب أن نفشل في كل شيء ونلقي الملامة على بعض موظفي القطاع العام، الصغار منهم والكبار، وعلى تركة الثلاثين سنة الماضية. هم في السلطة وفاشلون في كل شيء. وكل شيء يعن على بالهم هو سبب فشلهم. المهم القول أن سبب الفشل ليس من يحتل السلطة بل من يطالب ويعترض وأصحاب الحاجات. استعلاء أخلاقي كاذب. وفشل عملي مريع. اختفى مفهوم الإنجاز وممارسته. ليس لديهم شيء يفعلونه سوى “النقنقة”، وكلما احتاج الأمر إثارة طائفية من هنا وهناك.
نحارب الفساد حقيقة بالإنجاز. لا يأتي الإنجاز إلا عن طريق العمل والسعي والإنتاج. نسترد كرامتنا بالعمل والإنجاز. نبني مجتمعا متماسكاً بالإنجاز؛ به نتخلص من بقايا الأدران في نفوسنا ونتخلص من نفسية التسول. كلما دق الكوز بالجرة ندعو الى مؤتمر دول مانحة. جعلنا أنفسنا الصبي المدلل في هذا العالم. الفساد أن لا ندرك أن بناء الأوطان هو بناء الدول وهذا أمر يقوم به أبناؤه. نريد من الغير أن يبني لنا الوطن الجميل. لا وطن جميلاً إلا بالعمل والإنتاج والبناء. منطق التسوّل يطغى على عقلنا ويلغيه. أصبحنا صورة عالمية لذلك الشحاذ الذي يقف على مفترق الطرق. إذا سألنا أحد من المانحين المرتقبين: ماذا فعلتم؟ يكون الجواب اللاشيء. نبني الوطن باللاشيء.
نحارب الفساد بالتقدير الموضوعي لحاجات المجتمع. نعمل على تلبية الحاجات دون تمييز. نضع الناس في موضع لكل منهم من أجل العمل والإنتاج. من يعمل لا وقت لديه للتسول أو السرقة.