طفلتان في الرابعة من العمر رأيتهما تتشاجران. تشاجرتا بعنف ظننت أنه لا يتناسب وسنهما ولا مع براءة افترضناها طويلا سمة لصيقة بالطفولة. لم تمر ساعة زمن إلا وكانتا تتقاسمان في سعادة وكرم بالغ حلوى تخص واحدة منهما واللعب بدمى تخص الأخرى، وقع هذا وذاك وسط مظاهر حب أكثرها متكلف وإن ليس زائفا بأى حال. بعد الشرح والتذكير بتجربتي كمربٍ في مرحلة مبكرة جدا من حياتي عدت أدرك أن الأطفال كالكبار قد يمارسون أحيانا القسوة عند التمهيد لإعلان الحب أو تأكيده.
***
لا أصدق أن النساء خلقن وفي طبعهن كيد عظيم وميل شديد للنكد والتنكيد. ولكني كثيرا ما أقف متفهما إلى جانب أكثر من صديق يتعرضون لأعمال قسوة متعمدة تبرر الزوجات ممارستها ضد أزواجهن بالخوف عليهم. زوجة واحد من هؤلاء الأصدقاء استعانت بي الأسبوع الماضي لإثبات حقها في ممارسة بعض القسوة على زوجها. قالت لي أمامه إنها لا تفعل أكثر من أنها تشاركني الشك في أنه لا ينتبه بالقدر المناسب لمخاطر الطريق، الشك الذي يدفعها وحبها له وخوفها عليه للاتصال به بين الفينة والأخرى. تدخل الزوج مقاطعا ليبلغني أنه بين الفينة والأخرى التي تتحدث عنهما زوجته ما لا يتجاوز عشر دقائق. أضاف بقوله “رجاء يا صديقىي لا تشترك معها في تسمية الدافع لهذا الإجراء خوفا، التعريف الوحيد له هو كلمة تعذيب”.
أخرى اشتكت لي من نفسها. اشتكت في غير حضور زوجها. قالت “ساعدني. جد لي حكيما يعالجني. أنا أعذب زوجي ولا عذر لي أو مبرر. أشعر كأني أنتقم. من ماذا؟ لا أعرف. هو لم يفعل ما يؤذيني. هو دائما هادئ الطبع، قل باردا إلى حد الاستفزاز. أحبه ولا أخجل من ترديدها في وجوده. أحبه ولكني أحب أن أعذبه. لا تطلب تفاصيل فهذه لن أبوح بها إلا لحكيم تأتيني به”.
***
زوجة صديق آخر علمت بأمر هذا المقال حين كنت أجمع مادته. اتصلت لتتهم صديقي الذي هو زوجها بادعاء الخوف عليها من عدوان يشنه الرجال عليها إذا هي خرجت إلى الطريق دون أن تتوقف عند نقطة تفتيش أقامها في ردهة باب البيت. يريد أن يتأكد أن لا شيء من جسمها تكشف عنه ملابسها، وأن لا لون يزوق وجهها يمكن أن يلفت نظر رجل غريب. هذا الموقف المهين الذي تتعرض له منذ أن تزوجته ثمنته غاليا في بداية حياتهما. كان دليل حب ودافعا لمزيد منه، ثم صار مصدر إزعاج وتعطيل قبل أن ينتهي اتهاما بالكره بل حتى بالخيانة. أرجوك، انقل له أن لا امرأة مستعدة أن تتحمل هذا العذاب اليومي حتى لو كان باسم الحب أو خوفا عليه. فليعلم أنني لن أسمح لأحد يحكم بأني غاليت في تزويق وجهي أو تجاوزت فيما ألبس وأخلع سوى مرآتي.
***
كلنا كنا في وقت أو آخر ضحايا قسوة من زملاء في المدرسة أو العمل. ظن هؤلاء أنهم بقسوتهم يحموننا من أنفسنا، يحموننا من بعض تصرفاتنا وأهوائنا. سلاحهم الخصام. أذكر أننا كأطفال ثم مراهقين كنا شديدي الحساسية ضد أن يخاصمنا أقرب صديق أو زميل. حذارِ من مخاصمة طفلك. يمكن جدا أن يصاب طفلك بمرض نفسي عضال لو أنك تجاهلته عمدا لفترة طويلة عقابا له على خطأ ارتكبه ودرسا ليتفادي تكرار الخطأ. المخاصمة من أسوأ العقوبات وأشدها قسوة. بل إنها الأسوأ على الإطلاق لو لجأ إليها رجل وامرأة متزوجان أو متحابان. الخصام تباعد وإن تكرر أو طال أمده صار نفورا، الذي هو أخطر ما يمكن أن يصيب الحب، وقد تأتي الإصابة، وأنا هنا أحذر، قد تأتي في مقتل، أي في هجر وكره.
***
أثارت قضية القاضي كافاناه جدلا في الولايات المتحدة وربما العالم الغربي بأسره. السؤال المحير والمركزي في هذا الجدل يدور حول ما إذا كانت حملة التحرش الجنسي تحولت أو هي تتحول إلى حرب حقيقية بين الجنسين، الذكور والنساء. تقول نساء لقد أنذرناهم ولم يرتدعوا. المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه معهم استمر يتجاهل شكوانا ويقلل من أهمية تحذيراتنا وإنذاراتنا. أردنا مساعدة الرجال على اتباع نمط جديد من التعامل. لن نقبل بالنمط السائد. لا تستهينوا بما يمكن أن نفعله لنحمي الرجال من تبعات شرورهم وأخطائهم. نحن لا نصدق الرأي القائل بأن الذكور جبلوا على كره النساء. هم لا يكرهوننا. حتى الرئيس دونالد ترامب لا يكرهنا. كل ما هنالك هو أنه وأمثاله رضعوا مع حليب أمهاتهم الاستهانة بنا وتحقيرنا. انتهى هذا العصر. إنها فعلا الحرب نشنّها عليهم ليغيروا طبائعهم ويتعلموا كيف يتعاملون معنا بندية كاملة واحترام متبادل. نشن عليهم حربا نستعد لها من آلاف السنين، نشنها لأننا نحبهم.
***
علقت زميلة تخصصت في العلاقات الخليجية الأمريكية على الرسائل العلنية المتبادلة مؤخرا بين الرئيس دونالد ترامب وولي عهد السعودية، قالت: “يا صديقي هو الحب في أعلى مراحله. الخوف العارم في أمريكا على مستقبل السعودية هو الذي يدفع واشنطن إلى هذه القسوة الشديدة وغير المألوفة في التعبير عن مشاعرها”.
تنشر البتزامن مع جريدة الشروق