للنصر ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة…
وعلى قرص عسل النصر الذي حققه لبنان بمقاومته معززة بصمود أهلها وتماسك السلطة، تجمّعت أسراب من النحل و الزراقط و الدبابير وكل منها يحاول أن ينال من العسل نصيباً.
مَن كان يرى في إسرائيل قوة لا تقهر، ويكاد يتباهي أو يتخوّف من أن جيشها هو الخامس في العالم، ويرى في التحرّش به نهاية للبنان، بعمرانه واقتصاده ووحدة شعبه، وبالتالي دولته،
.. ومَن كان يرى أن إسرائيل تختزل العالم، وأن أي صدام معها سيجعلنا في مواجهة بائسة مع أعتى القوى الدولية، بقيادة الإدارة الأميركية،
.. ومَن كان يرى في المقاومة نفسها اعتداءً على السيادة والاستقلال والعنفوان، بينما هي لا تشكّل خطراً على الجبروت الإسرائيلي، وأن المقاومة تنفذ بالتأكيد مشروعاً ليس له علاقة بلبنان، وأنها مجرد أداة للحلف الإيراني السوري، وبالتالي فهو قد اتخذ من عملية 12 تموز دليلاً لا يدحض على أن المقاومة ممثلة ب حزب الله إنما تُستخدم ضد مصلحة لبنان، بشعبه وجيشه وعمرانه وكامل دولته.
مرّت الأيام حافلة بالوقائع التي لا تدحض: أن إسرائيل هي التي حوّلت الاشتباك إلى حرب ، وأن جيشها الذي لا يقهر وقف عند الحدود لا يستطيع أن يخترقها فيتقدم إلى الداخل، وأنه عند التخم، ممثلاً بمارون الراس وبنت جبيل وعيترون وغيرها قد تكبّد خسائر فادحة في مواجهات باسلة مع مجاهدي المقاومة الذين تبدّوا كأنهم أبطال أسطوريون، وأن أهلهم الصامدين معهم كأنهم مخلوقات من كوكب آخر.
في الأسبوع الثالث كانت الفضيحة الإسرائيلية قد جلجلت، مسربلة بالدماء وبحطام الدبابات والجرافات، وبتفجّر الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية وداخل الجيش وبين الحكومة والجيش..
في الأسبوع الرابع كان حتمياً أن تحاول إسرائيل، بالاتكاء على الإدارة الأميركية التي حرّضتها على توسيع الاشتباك إلى حرب، ترميم الهزيمة العسكرية أو طمسها بقرار دولي أي في مجلس الأمن، وهو الموقع الذي ليس فيه للمقاومة ولا للبنان الدولة أي نصير جدي، فإذا ما توفر صوت عربي وبعض أصوات الفقراء من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا أو بعض الدول الإسلامية، كان سهلاً على الفارس الأسطوري جون بولتون قمعها، واستصدار القرار الكفيل باستنقاذ سمعة إسرائيل العسكرية وتغطيتها بمكسب سياسي لا يستطيع لبنان أن يرفضه بالمطلق.
ولسنا هنا بمناقشة القرار 1701 ومدى انحيازه إلى إسرائيل، لكن من المفيد تسجيل بعض الملاحظات على هامش التداعيات التي نجمت عنه، وأساساً عن النصر الذي حققته المقاومة للبنان (ومن معه):
1 بالأمس شهد مجلس الأمن حدثاً يمكن وصفه بالتاريخي إذ ذهبت إليه وزيرة خارجية إسرائيل موفرة صورة نادرة في هذه
المؤسسة التي كان مقدراً لها أن تكون في موقع الضمير العالمي فبدلت فيها التحولات التي شهدها العالم في الربع الأخير للقرن الماضي، حتى باتت أشبه بمكتب التصديق الدولي على القرار الأميركي، واستطراداً الإسرائيلي.
2 أقر مجلس الأمن تعزيز قوة الطوارئ الدولية في جنوب لبنان برفع عديدها من ألفين، هو واقعها الحالي، إلى 15 ألف جندي، وبمشاركة دول كبرى وذات نفوذ بحيث تحصّن الحدود مع لبنان، وتمنع اختراقات المقاومة الهجومية.
وفي نظرة سريعة إلى حدود الكيان الصهيوني نرى أنه بات مطوقاً من جهات ثلاث بقوات دولية: متعددة كما في سيناء وخليج العقبة والبحر الأحمر؛ وأممية، أي تنفيذاً لقرار صادر عن مجلس الأمن، في سوريا (قوات فك الاشتباك الموجودة في الجولان منذ العام 1974) وفي لبنان، كما كانت اليونيفيل التي تناقص عدد جنودها من حوالى تسعة آلاف إلى حوالى ألفين وها هو يعود فيزداد إلى 15 ألفاً.
أما داخل فلسطين، حيث مسخ اتفاق أوسلو مع قيادة منظمة التحرير، فأنشأ سلطة ولا دولة، بقوى أمنية عاجزة ومفسدة ولا جيش، فإن الذعر الإسرائيلي من الانتفاضات الشعبية التي لا تتوقف برغم غزارة الدم الذي يسفكه جيش الاحتلال وسفاحو المستعمرات، قد دفع بإسرائيل إلى بناء جدار الفصل العنصري، وإلى مواصلة القتل اليومي واغتيال الأطفال وتدمير البيوت واعتقال المئات والآلاف لا فرق بين مدني ونائب أو وزير أو رئيس للمجلس التشريعي.
مع ذلك فإن إسرائيل هي اليوم وستكون غداً في رعب من بسالة الشعب الفلسطيني، بأطفاله ونسائه وشيوخه، قبل الرجال، ولعلها تطلب غداً قوات دولية عديدها، مثلاً، مئة ألف جندي، لعلها تطمئن إلى أمنها ، وهي التي تملك واحداً من أقوى جيوش العالم بأحدث معدات القتل والتدمير، فضلاً عن ترسانة الرؤوس النووية التي تقدّر بحوالى المئتي رأس..
كيف السبيل إلى طمأنة إسرائيل، إذاً؟!
أما السبيل إلى مواجهتها وهز هيبتها وإجبار جيشها هائل القوة على الانسحاب مجرجرا أذيال الخيبة، فقد كتبه هؤلاء الفتية من مجاهدي المقاومة في لبنان بدمائهم، المعززة الآن بالعلم والتدريب المتميّز والسلاح المناسب لحرب العصابات، وصمود شعبهم من خلفهم ومعه السلطة التي ظلت متماسكة في وجه الضغوط ومحاولات الترهيب والترغيب والابتزاز، و طليعتها كانت عربية، أما الجبهة الدولية فكادت تضم أقوى دول العالم.
على هذا، فمن حق لبنان أن يزهو ببسالة مقاومته المعززة بالكفاءة وبالصمود الشعبي العظيم الذي لم تهزه ولم تخلخله أقوال أو تصرفات بعض السياسيين قصار النظر أو ضعاف النفوس… لقد تماسك لبنان كله، بإجماع وطني نادر، على طلب النصر، خصوصاً وقد دفع أكلافه الباهظة من لحوم مواطنيه وهناءة عيشهم وأسباب عمرانهم.
والآن إلى حماية هذا النصر، حتى لا يخطف منا بالحيلة أو بالمناورات الدولية أو بمحاولة خلخلة الوحدة الوطنية.
أما إسرائيل فلها من ينصرها ومن ينصحها ومن يحيطها بعناصر الاطمئنان الإضافية المجهولة المعلومة.
… وفي أي حال، فلبنان اليوم هو غير لبنان الذي كان، وإسرائيل لم تعد ولن تعود أبداً إسرائيل التي كانت!