بعد زيارة خاطفة لم تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وجلسة استماع مع الحكم لم تضف جديداً الى ما تعرفه وزيرة الخارجية الاميركية، حرصت مادلين اولبرايت على استدعاء خليط عشوائي من الأعيان ووجهاء الحياة السياسية وأصحاب المواقع العليا في القضاء لتعلن الخبر المثير،
كان لا بد من شهود فجيء بعدد من سفراء الدول العربية والاجنبية المصنفة كأصدقاء حميمين للولايات المتحدة الاميركية،
وعلى امتداد عشرين دقيقة طويلة ومليئة بالكلمات الشديدة الانفجار اذاعت اولبرايت على الحاضرين وعبرهم (ومعهم الاعلام) على اللبنانيين جميعا »مانيفستو« قاطعا في وضوحه: الاعلان عن نهاية مرحلة طويلة من الغياب وعدم الاهتمام او الاهتمام المحدود وفي مناسبات محددة، وبداية مرحلة جديدة عنوانها الابرز »عودة الولايات المتحدة الاميركية كلاعب رئيسي على المسرح اللبناني«،
»ها قد عدنا«، قالت اولبرايت، مضيفة ما مفاده ان واشنطن لن تكتفي بعد اليوم بدور المراقب والمتدخل احياناً وبحذر »للمساعدة«، والذي يقنع بالاستشارة أو بأخذه في الحساب في لحظة اتخاذ القرار.
»المياه الباردة تروي الظمأ«، قالت اولبرايت مستشهدة بهذا المثل الشعبي الاميركي، وهي تعرف ان كلامها سيروي ظمأ كثيرين ممن سمعوها مباشرة، خصوصا وقد شفعت المثل بحديث تفصيلي عن مواضيعهم الأثيرة من تعدد الثقافات والحضارات، والتسامح الديني، والصداقة القديمة والمتجذرة والعميقة في الافكار الديموقراطية المشتركة، ووجوه الشبه بين »تكوين« المجتمع الاميركي والمجتمع اللبناني، واعادة البناء ليس وفقا لنموذج آخر، لانتاج »لبنان صنع منكم ولكم انتم«…
طبعا لا بأس من شهادة حسن سلوك »للاتجاه الذي يعتمده لبنان«،
ثم لا ضير في المصارحة بأن »لبنان هو المكان الأنسب كي اختم زيارتي الاولى الى المنطقة كوزيرة للخارجية«،
اي انها تقصدت ان تخاطب من لبنان تحديدا كل الذين زارتهم، وان تسمعهم بعض آرائها العامة وتحديداً موقفها من هذا البلد الذي يشابه بحدود معينة »النموذج الاميركي«.
إن الفشل في عواصم اخرى لا يمنع عن اعلان القدرة والنية على النجاح في بيروت، العاصمة التي يعاد بناؤها للبنان الجميل.
حيث لا سر، فضلت مادلين اولبرايت ان تقول علنا ولعموم اللبنانيين وسائر العرب (والاسرائيليين) ما ترمز اليه زيارتها التي اختارت لها الطريق والبوابة: فليس بالمصادفة او نتيجة ضيق الوقت جاءت من غير باب دمشق، وهو الباب الذي اعتمده على امتداد السنوات الاخيرة الاكثرية الساحقة من الزوار الكبار للبنان (على قلتهم)..
وهي اذا كانت استخدمت هذا الطريق الطويل، عمدا، فلكي تستطيع ان تستثمره ايضا في الاشارة الى استمرار الحاجة الى تدابير خاصة للوصول الى لبنان: فلبنان ما زال مكانا خطرا للناس المتوجهين اليه.
بعد الاعلان السياسي العام، كان لا بد من تحديد جملة من الشروط التفصيلية لكي ينال لبنان »درع التثبيت« ومنها:
{ ».. ونحن نتطلع لان نرى قريبا انتخابات حرة وعادلة على المستويات الحكومية كلها (بما يوحي بأن ثمة من ابلغها ما جرى للانتخابات البلدية من ارجاء متكرر، ثم من طعن بالقانون الذي ارجأها، وتبني المجلس الدستوري، هذا الطعن… وللاشارة فقد كان رئيس المجلس الدستوري بين المدعوين لسماع التوجيه السياسي الشامل،
{ تنبيه مقتضب ولكن جازم الى »التقويض غير الضروري للحريات الاعلامية«.
{ اصرار على المطلب الاميركي الدائم بضرورة محاكمة الذين قاموا »باعتداءات« ضد الاميركيين والرعايا الاجانب عموما، خلال سنوات الحرب الطويلة،
{ التهديد الذي يمثله »العنف المتطرف الذي ما زال قائما«.
بعد ذلك تأتي »النصيحة الغالية« لتجرد الوضع في الجنوب المحتل ومن ثم المقاومة المشروعة للاحتلال الاسرائيلي فيه، من اي معنى سياسي، اذ تطلق في توصيفه بعد التأسي والأسف على الضحايا عبارة مستفزة من نوع »حلقة العنف اللامتناهية والتي لا معنى لها«.
وبرغم اشارتها السريعة الى ان »نسبة الفقر والبطالة ما زالت مرتفعة« فهي تفصل تماما بين النهج الاقتصادي المعتمد وبين الازمة السياسية والاقتصادية المفتوحة والتي تشمل لبنان وسائر ما كان يسمى دول الطوق، والتي يشكل الاحتلال الإسرائيلي، بتبعاته الثقيلة، السبب الأهم في تكوينها والذريعة الأهم لاستحالة المحاسبة على تعثر النهوض الاقتصادي والخلل في الحياة السياسية.
للمناسبة: استخدمت أولبرايت المنطق الاسرائيلي في تمييز الدروز عن سائر المسلمين فأشارت إليهم كأتباع دين ثالث غير المسيحية وغير الاسلام.
مادلين أولبرايت تتمتع، كما قالت، بصفتي »الطاقة والتفاؤل«.
وواضح انها قد جاءت الى لبنان لكي تقول وليس لتسمع، فكلامها يدل أنها لم تتأثر بما سمعته في القصر الجمهوري، خصوصا وانه معد من قبل، ومكتوب وليس ارتجالا،
ثم، ومع التقدير لصفتيها المشار إليهما أعلاه، فمن المشكوك فيه أن تكون الوزيرة الأميركية التي لا تعرف منطقتنا إلا بالسمع وعبر التقارير والقراءات المتناثرة، قد استطاعت أن تكوِّن مثل هذه الآراء القاطعة حول مختلف جوانب حياة لبنان في الماضي والحاضر والمستقبل.
لقد قالت أولبرايت كلمتها ومشت،
لكن »أصدقاء واشنطن في لبنان« سيقولون بعد اليوم كلاما كثيرا، مختلفا في مضمونه وفي صياغاته عما كانوا يغمغمون به سابقا، أو »يهرّبونه« في مناسبات مختارة بدقة.
أما هموم اللبنانيين الثقيلة فلسوف يكون عليهم أن يبقوا تحت وطأتها طويلا، في انتظار العلاج الجدي لجوهر الأزمة وهو الاحتلال الاسرائيلي بكل مفاعيله الداخلية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وقدرة على القرار.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان