بعث الخبير المميز في المجال النفطي، الدكتور نقولا سركيس، كتاباً مفتوحاً الى سفيرة النروج في بيروت حول ما يتهدد الانتاج في لبنان، من نفط وغاز، ليس فقط نتيجة التقاعس الرسمي والخفة في اختيار الهيئة الوطنية للنفط والغاز، بل كذلك بسبب التآمر الاسرائيلي المتواصل ومحاولة التأثير على الدول المعنية. وفي ما يلي نص الكتاب المفتوح:
من المسؤول عن التشريع البترولي في لبنان؟…
رسالة مفتوحة لسعادة السفيرة لينه ناتاشا ليندة المحترمة
سفارة النروج
بيروت / لبنان
صاحبة السعادة،
ردا على الرسالة التي وجهها كاتب هذه الأسطر لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والتي تم نشرها في “الاخبار” بتاريخ 6 كانون الثاني الماضي، بغية لفت انتباهه لخطورة الانحرافات الكارثية في سياسة لبنان البترولية، سارع المهندس الجيولوجي العراقي ـ النروجي السيد فاروق القاسم للإشادة بالتدابير التي اتخذها بعض المسؤولين اللبنانيين حتى الان في هذا المجال، ولتشجيعهم على المضي قدما على نفس الطريق.
وقد جاء رد السيد القاسم في مقال في “الاخبار” تاريخ 13 كانون الثاني تحت عنوان “توضيحات وتعليقات لتيسير الحوار في قطاع البترول: فلنتأكد من وجود النفط اولا!”. مقال يقدم فيه السيد القاسم نفسه بانه “لعب دورا اساسيا في تأسيس القطاع البترولي النروجي بين 1968 و1973″، ثم في ادارة هذا القطاع قبل ان يعمل كاستشاري بترولي منذ العام 1991. يضيف الى ذلك انه ساهم قبل عشر سنوات في رسم “خطوط السياسة البترولية للبنان… ثم تحويل السياسة النفطية الى تشريعات وتنظيمات ادارية، وتحضيرات أولية لجولات التراخيص”، وهو، كما يقول، امر يستحق الاشادة والتشجيع…
هذا الكلام للسيد القاسم لا يمكن ان يمر مرور الكرام، وذلك لسببين. اولهما ان هذه هي المرة الاولى التي يعلن فيها عن هويته ويزيح النقاب عن الدور المحوري الذي لعبه حتى الآن، بتكتم شديد، في مسيرة البترول والغاز في لبنان. اما السب الثاني فهو ان القائمين على هذا القطاع في لبنان ما فتئوا يرددون منذ سنوات طويلة ان ما يقومون به مستوحى من “النموذج البترولي النروجي”. مما يضعنا وجها لوجه امام مغالطات في غاية الخطورة نظرا لان ما حصل حتى الآن في لبنان لتهيئة التنقيب عن البترول والغاز وانتاجهما في المنطقة الاقتصادية الخالصة يناقض كليا ما حصل ويحصل في النروج.
هذا التناقض يبدو اولا بشكل صارخ على صعيد الشفافية، اذ انه لم يتم في لبنان اي شيء يشبه من قريب او بعيد الحوار الوطني الواسع الذي سبق ورافق رسم سياسة النروج البترولية، بما في ذلك سيل الدراسات والتقارير التي قام بها وأشرف عليها المجلس النيابي النروجي، والتي ادت في نهاية المطاف لتبني ما يسمى “الوصايا العشر” عام 1971. نفس التناقض نجده ايضا وخاصة في مجالي مشاركة الدولة في الانشطة البترولية كما في انشاء شركة النفط الوطنية ستاتويل عام 1972، وهما المجالان الحيويان اللذان كانا خصيصا موضوع اثنتين من الوصايا العشر المشهورة.
لا بل ان الأسوأ من ذلك هو ان مشاركة الدولة التي نص عليها قانون البترول اللبناني 132/2010 قد تنكر لها صراحة المرسوم 43/2017 المفترض فيه ان يكون “تطبيقيا”، مما يؤدي تلقائيا وعمليا لصرف النظر عن نظام تقاسم الانتاج الذي نص عليه القانون، ونقل حقوق ملكية كل ما يتم اكتشافه من البترول والغاز من الدولة الى …مصالح خاصة!
ومن اللافت في مقال السيد القاسم انه أوحى وما زال يوافق صراحة على ما ورد في المادة 5 من المرسوم المذكور حول “لا مشاركة للدولة في دورة التراخيص الاولى”، مما يعني طرد الدولة برمتها من الانشطة البترولية، وتزويرا لمبدأ اساسي نص عليه القانون البترولي. مما يطرح السؤال الجوهري: من المسؤول عن التشريع البترولي في لبنان، هل هو المجلس النيابي ام مهندس نروجي من اصل عراقي يعمل مع بعض موظفي وزارة الطاقة؟..
اما الحجج التي يقدمها للامتناع عن الاسراع في انشاء شركة نفط وطنية، فهي نسخة طبق الاصل لتلك التي كانت شركات البترول الانكلوسكسونية ترددها في القرن الماضي ضد قيام شركات بترولية وطنية، سواء في الدول الاوروبية او في الدول المنتجة للبترول والغاز. هذا مع العلم ان مجال عمل هذه الشركات الوطنية لا يقتصر على الاستكشاف والانتاج، بل يتعدى ذلك الى النقل والتكرير والصناعات البتروكيميائية، الخ. اما في لبنان، فيكفي التذكير بضرورة ترميم وتجديد مصفاتي طرابلس والزهراني اللتين يأكلهما الصدأ من سنوات وسنوات.
ولا تقل سوءا عن ذلك الشروط المالية التي يتضمنها المرسوم 43/2017، والتي تمتاز بكونها دون الحد الادنى المقبول في سائر انحاء العالم : اتاوة 8% الى 16% في النروج خلال الفترة الاولى من انشاء ستاتويل، مقابل 4% للغاز و5% ـ 12% للبترول في لبنان، ومشاركة دولة تراوحت خلال نفس الفترة حوالي 50% في النروج مقابل صفر حاليا في لبنان و5% ـ 20% يقترحها السيد القاسم كمجرد امكانية افتراضية في المستقبل غير المنظور، او ضريبة على ارباح الشركات العاملة تتراوح حاليا حول معدل 26,5% في العالم، و78% تضاف اليها رسوم اخرى في النروج، مقابل 20% في لبنان.
هذا دون ان ننسى تصرفات اخرى لا مثيل لها في بلدان اخرى، من نوع التأهيل المسبق لشركات وهمية تم تأسيسها على عجل بحفنة من الدولارات في هونكونغ وغيرها بغية منحها حقوق استكشاف وانتاج، او تأهيل شركات اخرى “غير مشغلة” من بلدان ابعد ما يكون عن الشفافية والمساءلة، او الظروف التي ما زالت غامضة لتزوير الترجمة الى العربية لمقال كتبته بالإنكليزية السيدة اناليزا فيديلينو، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في لبنان، وتم نشر الترجمة العربية في جريدة “الحياة” في 27 كانون الثاني 2017. وكلها تصرفات يصعب طبعا مجرد تصورها ليس فقط في النروج، بل حتى في البلدان الاكثر فسادا بين الدول الفاسدة.
هذه بعض نماذج عن الانحرافات التي اشارت اليها وسائل الاعلام في لبنان والتي كانت محور تساؤلات أوجزتها رسالة وجهها في شباط 2017 الى وزير الطاقة، نخبة لا تقل عن الثلاثين من الوزراء السابقين، واساتذة الجامعات والمحامين والاقتصاديين والخبراء والاعلاميين. رسالة ما زالت حتى اليوم دون اي جواب!…
هذه النماذج وهذه الاسباب لا تترك مجالا للشك ان “اشادة” السيد القاسم بما قام به بعض المسؤولين عن القطاع البترولي في لبنان، مع التركيز على “الدور الاساسي” الذي لعبه في نفس القطاع في النروج، يؤدي للأسف الى زيادة البلبلة التي يغذيها منذ سنوات بعض المسؤولين عبر تسخير التجربة البترولية المشرفة في النروج لخدمة مصالح خاصة ومآرب لا تشرف احدا.
لهذه الاسباب كلها، يبدو ان السلطات النروجية المختصة هي الوحيدة المؤهلة لاتخاذ الوسائل الملائمة لتبديد التباسات مسيئة الى حد كبير للنروج كما انها مسيئة للبنان. كما يعود للسيد فاروق القاسم، بعد ان انتظر عشر سنوات قبل ان يخرج من الظل، ان يتحمل مسؤولياته في رسم ومساندة سياسة بترولية يمكن وصفها بالكارثية بالنسبة للبنان. تحمل المسؤولية هذا يمكن ان يبدأ بقبول دعوة لمواجهة علنية وصريحة على احدى شاشات التلفزيون الوطنية. لا سيما وانه يحق للبنانيين كما انهم بحاجة لمعرفة الحقيقة في سياسة اصبحت أقرب ما يكون الى عملية تضليل واسعة تهدد ثروة موعودة يبنون عليها الكثير من الآمال.
بانتظار ذلك اشكرك، يا صاحبة السعادة، لكل ما يمكن ان تتفضلي وتبديه من اهتمام بهذا الموضوع الحيوي بالنسبة للبنان، كما ارجو التفضل بقبول فائق الاحترام والتقدير لك وللبلد الذي تقومين بتمثيله.
في 28 كانون الثاني 2018
د. نقولا سركيس
مستشار بترولي