لولا قلة قليلة من المواقف الجدية التي أطلقها أو جدَّد إعلانها بعض القادة المالكين زمام قرارهم في افتتاح القمة التاسعة للمؤتمر الإسلامي، أمس في قطر، لتبدى المشهد أشبه بمهرجان خطابي طويل أكثر مما تحتمل اللحظة السياسية.
مهرجان تغلب على لغته ركاكة العجز عن اتخاذ قرار، ويجمع بين الأطراف المحتشدين فيه الحرج من الغياب أكثر من الرغبة في إثبات الحضور تعبيرا عن الاستعداد للمشاركة الفعلية في مواجهة ما يلقاه شعب فلسطين، وعبره ومعه العرب جميعا والمسلمون عامة من قهر وعنت وإذلال متعمد واستهانة بهم حاضرا ومستقبلا.
هم بالتحديد ثلاثة مَن قالوا ما هو جدير بالاهتمام، وما يليق بجلال الدم المراق، وبخطورة ما يتهدد »الأمة«، وباختصار ما يرتفع بالكلام الى مستوى المسؤولية التاريخية: الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري الدكتور بشار الأسد.
لم يكن الثلاثة متطابقين في طروحاتهم، ولكنهم تحدثوا بمسؤولية لا تغيب عنها »الواقعية«، وباستشراف لمستقبل الصراع لا يتضمن الدعوة إلى »الجهاد« ولكنه يحاول التأسيس لمنطق عملي في المواجهة المفتوحة. لا عبثية تنتهي بالهزيمة، ولا استسلام لتأمين السلامة، بل توجه إلى العالم بلغة العقل والمصالح من دون التخلي عن الهوية أو التفريط بالحقوق الأساسية أو القفز من فوق المبادئ لنيل الرضا وحتى لا يقع المحظور ويتخذ الكلام سياق الدعوة إلى حرب دينية لا يريدها أحد ولا يملك أن يعلنها أحد، بل ان »الخصم« هو من يشنها عملياً جهراً أو سراً.
من المحزن أن يثبت غداً أن هذه القمة الحاشدة التي تتجمع فيها بعض أفقر وأضعف الدول في العالم، وبعض الأكثر تبعية »للأقوياء« الذين يفترض مواجهتهم، قد حققت إنجازها الأعظم بإلزام قطر بإقفال المكتب الإسرائيلي فيها.
كالعادة، سترتفع أصوات تقول: إن مجرد انعقاد القمة تحت شعار »انتفاضة الأقصى«، والتزام أطرافها بالحد الأدنى، مكسب سياسي ممتاز.
وكالعادة ستجد من يناقشك ليقنعك بأن مجرد اللقاء على أرض الدعوة إلى مواجهة سياسية لا عسكرية، ومحدودة ومحددة مع إسرائيل بكل الدعم الأميركي الذي تلقاه، هو خطوة مفيدة بل ومهمة على طريق طويل… وتظل أفضل من الفرقة والشتات الذي انتهى بكثير من العرب والمسلمين إلى عرض أنفسهم على إسرائيل والتبرع بالعلاقات (سياسية وتجارية ومخابراتية) معها، تارة بذريعة »تهدئتها« ومنع انجرافها إلى مزيد من التطرف، وطورا بذريعة »رشوتها« حتى ترتدع طمعا بالربح السياسي والاقتصادي عن سياسة الحرب المفتوحة، وغالبا بذريعة »مساعدة الأخوان الفلسطينيين على استعادة ولو الحد الأدنى من حقوقهم في أرضهم.. وبناء على طلبهم«!
* * *
هل من المبالغة القول:
إن العروبة خارج السياسة..
وان الإسلام خارج السياسة،
وهل من التجني على العرب والمسلمين القول إن اجتماعاتهم تحت هذه الراية أو تلك لا تكفي لا لتوحيد مواقفهم ولا لتصليبها، لأن انعقادها محكوم بقاعدة »سيروا بخطى أضعفكم« وإلا استحال اللقاء أو فجّرت الخلافات بالمزايدة أو بالمناقصة الاجتماع؟!
لا في القاهرة كانت »العروبة« كرابطة عقائدية سياسية قادرة أو مؤهلة (؟) لإثبات نفسها كإطار جامع، ولا هي كانت المحرك للقمة الطارئة التي فرضتها »انتفاضة الأقصى« على الحكام الذين جاءت أكثريتهم بالحرج (حتى لا نقول الخوف)، ولتهدئة »الشارع« وليس للانضمام إليه أو الاستناد إلى قوته الزاخرة في مواجهة جنون القتل الإسرائيلي…
ومن ثم فقد انتهت القمة الطارئة بحد أدنى هو دون الحد الأدنى للقمة السابقة، في حزيران 1996، برغم طوفان الدم المراق الذي كان يغطي أرض فلسطين ويستفز كل الناس في كل أنحاء الدنيا، فكيف بالعرب المقهورين بالاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية التي تغطيه وتدعمه،
… ولا في الدوحة كان »الإسلام« كإطار لوحدة عقائدية في رحاب الدين الحنيف هو المحرك الفعلي للقمة التاسعة للمؤتمر الإسلامي تحت شعار »انتفاضة الأقصى«، مع التذكير بأن جنون نار التعصب الإسرائيلي الذي حاول إحراق الأقصى في العام 1969 هو الذي استولد »المؤتمر الإسلامي« وجعله منظمة تجمع 56 دولة تتوزع شعوبها الفقيرة والضعيفة والخارجة من حقب استعمارية طويلة، على امتداد قارتي آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا..
فالعروبة خارج السياسة، وإلا لكان للمؤسسات العربية بدءاً بجامعة الدول العربية وانتهاء بالقمة، مروراً بالدفاع المشترك والسوق العربية المشتركة الخ، دور آخر مختلف تماماً، من شأنه لو تحقق أن يغيّر صورة الحاضر والمستقبل،
لقد شحبت العروبة، كعروة وثقى، كانتماء قومي موحِّد له موجباته الملزمة، بل وصار الكثيرون من الحاكمين يرون فيها »العبء الثقيل«، أو أنها نوع من لوي العنق نحو الماضي والبكاء على الأطلال، أكثر منها تعبيراً عن هوية محددة والتزام بثوابت أساسية لحماية المسار والمصير في الحاضر والمستقبل.
كذلك شحب »الإسلام« كرابط عقائدي، وتحول في حالات كثيرة إلى عبء ثقيل، خصوصاً وأن توظيفه في السياسة قد تعرض لتشوهات خطيرة نفَّرت منه المؤمنين حقا، وحولته إلى سلاح في يد خصومه (خصوم هؤلاء المؤمنين) وهو ما أشار إليه الرئيس الأسد، في كلمته الدقيقة التعبيرات، أمس.
الحكام وحدهم داخل السياسة. »الكيانات« التي قامت أو أقيمت خارج العروبة وخارج الإسلام، هي داخل السياسة. مصالح الحكام والكيانات داخل السياسة.
* * *
مع ذلك ثمة من يقول: لعلها خطوة أولى في الاتجاه الصحيح. لعل الدم قد أيقظ الأرواح ونبّه العقول. لعل الإحساس بالخطر يجمع المتباعدين.
ومع ذلك لا بد من الاهتمام بتنفيذ الخطوات المحدودة، والتي يصورها العجز مهمة، التي أقرت وبالإجماع!! في قمة القاهرة، والتي ستقرها وبالإجماع!! قمة قطر، هذه الدولة الصغرى العظمى التي ستتولى رئاسة المؤتمر الإسلامي لثلاث سنوات طويلة، قد يكون أبرز إنجازاتها »التزامها« بإغلاق المكتب الإسرائيلي فيها طوال هذا الدهر.
أين هذا كله من دم الفتية البواسل في فلسطين، الذين هم ومن سبقهم أو يواكبهم الآن من المجاهدين، بالروح أو بالنضال أو بالعمل الدؤوب، يعيدون الاعتبار إلى »العروبة« والى »الإسلام«، وإلا لكانا صارا بعض آثار الماضي وبعض معوقات التقدم نحو العصر، وبعض مخلفات التقوقع الفكري والعقائدي ومجافاة منطق الحياة.
والسلام على من اتبع الهدى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان