ليست سوريا وحدها في مواجهة الأزمة التي افتعلتها معها القيادات التركية المرتبكة والغارقة في مشكلاتها الداخلية والمتوهمة ان الهرب الى »الحرب« يظل أسهل من تلبية مطالب شعبها الذي طالما أكد افتراقه عن مثل هذا النهج المغامر وغير المبرر.
لقد أكد العرب بمجموعهم وقوفهم إلى جانب سوريا وهي تحاول تجنب صدام مفتعلة أسبابه وحيثياته مع الجيران الأتراك،
وهم أيضا قد أكدوا حرصهم على تركيا ومصالح شعبها الجار والشقيق والذي يتقاسم معه العرب حقبات طويلة من التاريخ المشترك.
وطبيعي أن تكون مصر صاحبة المبادرة، وأن يتولى الرئيس حسني مبارك بشخصه السعي الى سحب فتيل »الحرب« التي يهدد بها القادة الأتراك، مؤكدا الحرص العربي العام على استعادة تركيا أو مساعدتها على العودة إلى موقعها الطبيعي، بين العرب لا ضدهم، ومع المسلمين لا عليهم، ومع »جيرانها« الذين لن يهاجروا ولن يهجروا موقعهم في الجغرافيا كما لن يرموا تاريخهم في المزابل!
إن لتركيا في محيطها من الأعداء ما يكفيها،
ثم ان عندها من المشكلات والأزمات الداخلية ما يفترض أن يشغلها بنفسها، لا أن تلجأ في الخارج كما في الداخل الى استعراض القوة أو التهديد باستخدامها، أو استخدامها فعلا، سواء ضد أحزاب فازت بالانتخابات ديموقراطيا، أو ضد أقليات عرقية تعترض على »الاضطهاد الوطني« بالسلاح، أو ضد جيرانها الذين لم يبادئوها مرة بالحرب!
ولربما يحب الاقادة الأتراك، والعسكريون منهم خاصة، أن يقلدوا النموذج الإسرائيلي الذي لا يخفون انبهارهم به،
لكن إسرائيل، وبغض النظر عن كونها قوة وافدة وطارئة على المنطقة، وبغض النظر أيضا عن أن »العسكر« هم مركز السلطة فيها، قد نجحت في ان تكون »دولة كل الإسرائيليين«، بل هي تقدم نفسها للعالم بوصفها »دولة كل اليهود« فيه، وتتكئ على وحدتها الداخلية (برغم الخلافات السياسية والتمايزات العرقية) لتواجه »الخارج« الذي تستعديه وتقاتله من أجل مزيد من الأمن والرفاه »لمواطنيها« المستقدمين من أربع رياح الأرض.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فقد وفرت الحماقة التركية الفرصة لقيادة التطرف الاسرائيلي لان تظهر في لبوس »حكيم« المنطقة، و»العاقل« المتمدن بين »المتهورين« من أهلها.
ولقد تأكد التحالف التركي الاسرائيلي من حيث يراد نفيه، اذ ثبت وكأن طرفيه يتوزعان الادوار، فيلبس التركي ثياب الحرب بينما يكاد يستعير الاسرائيلي الريش الأبيض لحمامة السلام!
فبينما يندفع قادة تركيا، بشكل مباغت وغير مبرر، الى قرع طبول الحرب مع سوريا، فإن المسؤولين الاسرائيليين قد لجأوا الى تطبيق المثل الروسي القائل: »المتآمر الفطن يسحب يده من المفتاح، اذا عطس…«.
… وطالما ان رئيس الاركان الجنرال حسين كيفريل اوغلو يصرح »بأن هناك حالة حرب غير معلنة بيننا وبين سوريا«، متبرعاً بلعب دور »العدو« الاسرائيلي، فمن الطبيعي ان يسحب »المتآمرون الفطنون« في تل ابيب اسرائيل من حومة »الحرب« وقد توفر لها من يخوضها بالنيابة عنها، ومجاناً.
لقد وفرت العسكريتاريا التركية، ومعها القيادة السياسية التابعة لها، الفرصة الذهبية لاسرائيل لكي تبدو في صورة العاقل الهادئ والمهدئ في منطقة مضطربة والساعي الى الخير والسلام بين مجموعة من »هواة الحروب« او ضيقي الأفق الذين لا يستطيعون حل مشكلاتهم إلا باللجوء الى السلاح!
صار رمز التطرف الاسرائيلي، المهووس بالقوة، المتباهي بعناده ورفضه التسويات والاصرار على »ان يأخذ كل شيء«، داعية سلام، ولم يدع الفرصة تفوته فأعلن بنيامين نتنياهو: ان اسرائيل ليس لها دور في الازمة بين تركيا وسوريا!!
بل هو ذهب الى أبعد من ذلك فأبلغ الصحافيين: اتخذنا خطوات لنؤكد لسوريا اننا لن نستغل هذا التوتر لمصلحتنا او لتغيير الوضع القائم على الحدود بين سوريا واسرائيل،
وزايد عليه وزير حربه اسحق مردخاي فصرح، السبت، بأن اسرائيل ستخفض انشطتها العسكرية الروتينية على الحدود مع سوريا لتظهر انها ليست طرفاً في النزاع!
بالطبع ليست اسرائيل طرفاً. انها النزاع ذاته! انها السبب والمسبب!
لكنه ذكاء اسرائيلي باهر في مقابل الحماقة التركية المطلقة!
ان اسرائيل تتوجه بهذا المنطق الهادئ الى العرب والمسلمين عموماً، لتشهدهم انها أحرص عليهم من »اخوانهم« في الدين وجيرانهم التاريخيين وشركائهم في المصالح والمياه!
وهي تستغل شريكها الأحمق في التحالف العسكري، أي الاتراك، لتظهر سوريا بمظهر »المشاغب« و»المخرب« و»الساعي الى الحرب« ليس معها فقط بل مع »جيرانها« الآخرين ايضاً، وتركيا في طليعتهم (ومعها ضمناً الاردن..).
أي ان اسرائيل وبعدما أشعلت النار بتحالفها العسكري مع تركيا، والذي أكد نفسه بالمناورات المشتركة وبالزيارات المتبادلة وبوجوه التعاون في مختلف المجالات الحربية (الجو والبحر خاصة، والبر استطراداً)، هي التي تقف على الشرفة الان وتنادي على سيارات الاطفاء، تاركة الثكن العسكرية في انقرة تستدعي كبار الضباط، بينما تكثف اسلحة الجيش التركي تحركاتها على الحدود مع سوريا »في انتظار الاوامر«… بالهجوم!
وسيظل العرب يعتبرون اسرائيل عدوهم الوحيد، وان تركيا بلد صديق، بل يكاد يكون شقيقاً، حتى لو اخطأت قياداته في حقهم كما في حق شعبها،
وعسى ان تكون المهمة المصرية باسم كل العرب نقطة الختام في هذه المحنة المفتعلة،
لكن السؤال: هل تستطيع تركيا، بعد، ان تغادر الدور الاسرائيلي؟!
ونتمنى ان يسمع الرئيس مبارك في أنقرة غير ما سمعناه خلال الأيام القليلة الماضية من تهديدات اسرائيلية بلسان تركي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان