لحقت هزيمة جديدة ومدمِّرة بالعرب، حتى من قبل أن يوجِّه الأميركيون بآلة حربهم الرهيبة ضربتهم العسكرية التأديبية للعراق.
وهي هزيمة تتعدّى بآثارها الخطيرة الأنظمة والقيادات والحكّام لتنصبّ بأثقالها على »المواطن العربي« فتسحق شعوره بالكفاءة واحترامه لنفسه، وتحقّره أمام أطفاله وتلغيه كصاحب قرار في شؤونه المباشرة، كما تشطبه كقوة محتملة كان مقدراً لها أو أنها قدَّرت لنفسها ذات يوم أن تسهم في تبديل وجه العالم.
بين عناوين الهزيمة الجديدة اندثار صورة العربي كمناضل، كفارس، كثائر، كمقاتل من أجل قضية عادلة، كفدائي، أو في مستوى أدنى كصاحب طموح مشروع إلى تحقيق تقدم يتيح له المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية استناداً إلى تجاربه التاريخية الغنية، وإلى دوره المباشر في منتصف هذا القرن في إطلاق أو تشجيع أو رعاية أو نقل العدوى والإشعاع المؤثر لحركة التحرر الوطني وتحرير الإنسان.
يوماً بعد يوم، وعلى هامش الحملة الاعلامية الدولية ترويجاً لضرورة ضرب العراق، تترسّخ صورة للعربي تقدمه ليس فقط كأبشع مخلوقات الله، بل على أنه عدو الإنسانية جمعاء!
حتى مَن يزعمون أنهم في موقع المدافع عن العراق، وعبره العرب، يسقطون في الفخ ويروِّجون للأسطورة ذاتها وهي أن »العربي« يهدّد البشرية بالقنابل الجرثومية والحرب الكيماوية والتفجيرات النووية،
ألا يقوم منطقهم على ضرورة إعطائهم مهلة كافية لإقناع العراق بأنه لن يفعلها، أو في أحسن الحالات أنه لا يملك فعلاً ما يُنسب إليه امتلاكه من أسلحة الدمار الشامل؟!
»العربي البشع« في مواجهة »الأميركي الجميل« الذي تشد إليه وسامته النساء أرتالاً فيقتحمن عليه مكتبه في البيت الأبيض وينزعن عنه سراويله، أو »الأميركي المنقذ« الذي مثل »سوبرمان« يتدخل ليرد الظلم ويحق الحق، أو »الأميركي المحرِّر« الذي يعيد الأوطان المغتصبة إلى أصحابها بعد تحريرها من الحاكم الفاسق أو من المحتل المتجبّر!
… والفلسطيني هو الشاهد والشهيد!
سقى الله الستينيات: يومها كانت الكراهية تطارد الأميركيين في أربع رياح الأرض، لأسباب سياسية بطبيعة الحال، فقد كان الأميركي يقاتل الشعوب مباشرة، كما في فيتنام، أو عبر مخابراته الجهنمية (السي. آي. اي) في كل مكان… وقد لخّص الواقع كاتب أميركي مُجيد في الرواية الحدث: »الأميركي البشع«، وقد قدّمها للسينما بنجاح منقطع النظير مارلون براندو.
»عدوة الشعوب«، »الشيطان الأكبر«، راعية الدكتاتوريات، حاضنة مافيا المخدرات وتبييض العملات والعصابات المسلحة المقاتلة ضد الحرية والاشتراكية وحقوق الإنسان بدءاً من أميركا اللاتينية، مروراً بجنوب شرقي آسيا وصولاً إلى أفغانستان وقبلها أفريقيا بكل بؤر الأمل فيها.
لم يتبدّل الدور الأميركي. تبدّل الزمان.
الأميركي هو، الآن، القدر… بشاعته لا تلغي حتميته!
* * *
»العربي البشع«.
أوروبا تقيم جسراً جوياً لنقل الكمامات الواقية من الغاز إلى الإسرائيليين (وتنسى الفلسطينيين الذين »يقاسمونهم« الأرض نفسها، والذين لن يحميهم من الموت افتراض أن مصدر السم عربي)..
»العربي البشع«.
الولايات المتحدة الأميركية تقيم جسراً جوياً لنقل الصواريخ المضادة للصواريخ إلى إسرائيل كي تحميها من صواريخ صدام حسين… حتى مع علم واشنطن المؤكد أن العراق لا يملك الصواريخ ولا وسائل إطلاقها وإيصالها بحمولتها المدمِّرة إلى داخل فلسطين المحتلة،
وينسى العالم كله أن إسرائيل تملك أكبر مخزون نووي في المنطقة، وأعظم ترسانة حربية، وأن الأميركيين خاصة والغرب عامة قد التزموا بأن يوفّروا لها دائماً تفوقاً عسكرياً مطلقاً على مجموع العرب (والعجم!!).
.. وأن إسرائيل تملك مخزوناً هائلاً من القنابل المحظرة دولياً، وطالما جرّبتها في اللبنانيين داخل أرضهم المحتلة.
»البشع« الآن هو العربي: تتذبذب صورته بين حدين، الإرهابي أو الأبله. فهو عشائري، طائفي، مذهبي متعصب، لا يؤمن بالديموقراطية ولا بحقوق الإنسان. يحتاج إلى مَن يعلّمه كيف يسقط الورقة في صندوقة الاقتراع، أما في الاستفتاءات الرئاسية أو في المبايعات الملكية فيصوِّت بنسبة مئة وواحد في المئة كما جرى مع صدام حسين!
»البشع« الآن هو العربي: يعادي الغرب فيزرع مدنه بالقنابل، ويحتقر الحضارة الإنسانية فيحاول نسف مركز التجارة الدولي، ويقاتل ضد مشروع عصرنة المنطقة وفق النموذج الإسرائيلي،
.. وإسرائيل، كما أميركا بدايات القرن وحتى ما بعد منتصفه، مقصد الطامحين إلى الحرية، الهاربين من الاضطهاد والتمييز العنصري، المتشوّقين إلى القانون وعدله، الراغبين في إثبات جدارتهم بكفاءتهم الخاصة..
»البشع« الآن هو العربي: ذابح الأطفال وساحق رؤوس الشيوخ والنساء بالفؤوس في الجزائر، محطِّم جماجم السائحات في الأقصر، القاتل بدم بارد في القاهرة، سفاح النساء والأطفال والشيوخ في السوبرماركت في القدس أو في تل أبيب!
* * *
»العربي البشع« يهدّد الآن أمن الناس جميعاً وسلام العالم كله!
منذ سنوات طويلة يجري العمل لتثبيت هذه الصورة، وعبر أقوى وسائل الاعلام العالمي، للعربي، كل عربي وبالمطلق!
مساوئ الحاكم تسحب على المحكوم، وبعض وجوه التميّز عند المحكوم تنسب إلى جامعته الأجنبية أو إلى التحاقه بالنمط الأميركي في الحياة.
»العربي البشع« يجيء مرة من مصر، ومرة من ليبيا (ألم تتعرض لحملة دولية مشابهة حول مصنع الرابطة للأدوية بتهمة أنه يصنع أسلحة الدمار الشامل)، من السودان، من الجزائر، من عدن، من سوريا ومن لبنان، ومن قلب فلسطين، لكن الذروة دوماً عراقية.
إن العربي مطارد بشبح حاكمه في الداخل وعلى نطاق العالم، يهرب منه إلى المنفى طلباً للأمان والرزق فيُعامل في منفاه بسيئات حاكمه، بينما الدولة المعنية تشجع ذلك الحاكم وتمدّه بالمصانع والطائرات والدبابات والمنح المدرسية والفنانات وعارضات الأزياء إلخ..
* * *
»العربي البشع« يواجه الآن »الأميركي الجميل«،
العربي الذي لا يقدر على الحرب ويرفض السلم، الذي لا يأخذ بأسباب التقدم ويقاتل ضد الحضارة الإنسانية، المتخلّف عن الركب الديموقراطي والذي يصر مع ذلك على مواجهة ممثلي إرادة الشعوب بالانتخاب الحر (كبيل كلينتون ونتنياهو) بزمرة الدكتاتوريين الذين يتخذ منهم آلهة من دون الله…
هذا العربي المؤمن حتى الكفر، المتعصّب حتى القتل، المتلذذ بالانتحار الجماعي، المُهان في هويته والخارج من هويته وعليها، والذي لا يعرف له يقين،
هذا العربي الذي عزّ عليه الوطن وعز المنفى،
هذا العربي الذي ضاعت منه الثروة وضيَّع بجهله منجزات الثورة،
هذا العربي الذي يكاد لا يرضى به الحاكم »رعية«، ويكاد يرفضه الأجنبي »لاجئاً«، وترفضه إسرائيل إنساناً،
هذا العربي هو الخطر الحقيقي على حضارة القرن العشرين،
هذا العربي البشع هو عدو التقدم الإنساني فوق الأرض كما في الفضاء، عدو العلم ومبتكراته، عدو التكنولوجيا وأدواتها، عدو ثورة الاتصالات واختراقاتها الهائلة لحجب الجهل والجاهلية.
هذا »العربي البشع« يجب أن يُضرب حتى الموت،
وضربة العراق مقدِّمة ليس إلاّ!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان