أعطى حافظ الأسد صوته لبشار ثم مضى إلى قدره،
ولأن هذا الصوت رصيد من الموقف وليس رصيداً في المصارف،
ولأن هذا الصوت متعدد الأبعاد، سورياً وعربياً ودولياً،
لهذا كله فقد تمّت البيعة لبشار الأسد رئيساً من قبل أن يذهب الناس بأوراقهم إلى الصناديق، ليقولوا »نعم« لمن تبلَّغ انتخابه بمختلف لغات الأرض، بينما هو بعد في سرادق العزاء.
لقد قُدِّر على بشار الأسد أن يبدأ »عهده« من القمة وليس من السفح،
البرنامج جاهز، ومعلن، وباهر على صعوبته الشديدة،
الحلال بيِّن والحرام بيّن، ولا مجال لأنصاف الحلول بين الأبيض والأسود،
وهذا امتحان خطير حتى لأصحاب التجربة العريضة والخبرة الطويلة، المؤهلين تأهيلاً عالياً والمعدّين إعداداً جيداً للمركب الخشن،
ولكن جواً من الثقة قد انعقد، كأنما بسحر ساحر، حول هذا الشاب الوسيم، المنتصب القامة، الحاد النظرات، كثير الأسئلة، والحازم النبرة.
لقد »انتخبه« أو »سلَّم باختياره« أو »زكّى هذا الاختيار« جمع غفير من الدول، غربية شديدة التعلق بالممارسة الديموقراطية وشروطها الصعبة، وشرقية شديدة التمسك بعراقة الأصل والمحتد والدم الأزرق، وعربية تائهة بين تقليد هذه أو تقليد تلك،
فليس أمراً بغير دلالة أن يهاتف رئيس الولايات المتحدة الأميركية الدكتور بشار الأسد فيحادثه بعد القيام بواجب التعزية في »العملية السلمية« ورغبته في أن يبذل ما بقي في استطاعته من أجل إعادة بعث الروح فيها ووصل ما انقطع منها، ثم يوفد وزيرة خارجيته (وسط حملة سياسية قاسية على قراره) لتمثيله في الجنازة.
كذلك فإن رئيس الجمهورية الفرنسية جاك شيراك قام بمغامرة حين قرَّر الانتقال إلى سوريا للشد على يد بشار الأسد معزياً ومشدداً على الرغبة في تجاوز »الأزمة« مع دمشق.. وهي مغامرة، بل مخاطرة، في ظل »الحرب« المعلنة بينه وبين »مساكنه« وشريكه في المسؤولية والحكم، الحزب الاشتراكي الفرنسي.
وإذا كانت المشاركة الروسية العالية المستوى والكثيفة الحضور، (برغم اعتذار الرئيس بوتين في اللحظة الأخيرة)، منتظرة ومتوقعة نتيجة للعلاقات الوطيدة التي ربطت بين سوريا والاتحاد السوفياتي ثم الاتحاد الروسي، تاريخياً، ومنذ إعلان استقلال الجمهورية السورية في بداية الأربعينيات، فإن مشاركة دول غربية لم تعرف بالود تجاه حافظ الأسد أو دمشق، كبريطانيا، وكذلك مشاركة الاتحاد الأوروبي لا تقع في خانة المجاملة أو في خانة المصالح وحدها.
أما مشاركة تركيا فتستحق وقفة تأمل خاصة.
إن هذه المشاركة الدولية »النوعية«، إضافة إلى المشاركة العربية عالية المستوى وشبه الشاملة، والتي التقت فيها السعودية اليمن ومصر الجزائر والسودان الكويت والأردن، وياسر عرفات، ودولة الامارات قطر، فضلاً عن لبنان الذي تصرف كما هو واقعه وكأنه من أهل الفقيد الكبير، تعني مجدداً الإقرار بالمكانة العالية لسوريا، وبالدور السوري المتميز على المستوى العربي المفتوح، وتحديداً في أساس القضية: الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد أعطت هذه الدول، والقوى، أصواتها مرة أخرى لحافظ الأسد عبر بشار الأسد.
إن هذا بعض رصيد حافظ الأسد الذي بفضل شخصيته الاستثنائية ونجاحاته المتميزة، في التحديات والمواجهات، كما في التحالفات والتعاهدات، في الحروب كما في التفاوض، انتزع لبلاده ممثلة فيه الإقرار بدور يتجاوز بكثير طاقاتها الفعلية ومواردها المحدودة.
وبالتأكيد فإن الدكتور بشار الأسد كان يسترجع في ذهنه، كلما صافح واحداً من هؤلاء القادة، لا سيما الأجانب منهم »كشف الحساب« بين كل منهم وبين الرئيس الراحل، والده حافظ الأسد.
ومع أن حافظ الأسد يستحق مثل هذا التكريم (بالمشاركة) وأكثر منه،
إلا أن نجله الشاب الذي عجّلت عليه المقادير بالمسؤولية يملك من الذكاء والحصافة السياسية والدقة في الحسابات (وهي موروثة) ما يجعله يعرف أنه يُعطى الآن من رصيد أبيه، وأن كلاً يعطيه لسبب: البعض يعطي حباً وتقديراً، والبعض يعطي اجتناباً لخصومة، والبعض يعطي استدراجاً وإغراءً تمهيداً لأن يطلب بالمقابل ربما ما لا يحق له أو لا يجوز أن يطلبه.
لقد أعطت الدول، عربية وغربية، أصواتها لبشار الأسد، مستبقة الحشود الجماهيرية التي كانت تبايعه في الشارع.
أما في لبنان الذي يمثل أحد أعظم إنجازات حافظ الأسد السياسية، والذي أعطاه النجاح فيه شهادة »الجدارة« و»القيادة في أعالي البحار«، فقد كان بحضوره الكثيف والمتنوع والذي يكاد يمثله كله، بمختلف فئاته وتياراته وأهوائه، توكيداً جديداً للكفاءة العالية بل الاستثنائية التي كان يتمتع بها حافظ الأسد.
فمَن ينجح في لبنان الصعب والمعقد و»العاصي« إلى حد يقارب الاستحالة، يؤكد أهليته بأن ينال مثل هذا التقدير العالي ومثل هذا الانهبار العربي، حتى وإن خلا هذا وذاك من دفء العاطفة وحرارة الأخوة، أحياناً.
أعان الله بشار الأسد، ليستطيع القيام بأعباء الإرث العظيم الذي تركه له والده القائد الفذ، حافظ الأسد، الذي استوطن التاريخ وتعلّم منه كثيراً قبل أن يباشر فيساهم بصنعه، بما يفرض على الوريث الشاب أن يكون متمتعاً بحكمة الشيوخ بغير أن يفقد روح المغامرة المحسوبة بدقة »أسدية« مشهورة.
أعان الله بشار الأسد الذي فرض عليه القدر أن يبدأ في ظل الراحل الكبير، في تحدي ذاته منذ اللحظة الأولى لدخوله القصر الذي ثبت بالأمس كم أنه فسيح الجنبات بحيث يتسع للمتناقضين وللتناقضات، للحلفاء والخصومات، وطبعاً للأصدقاء والصداقات الثابتة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان