تتوالى تفاصيل »اللعبة الانتخابية« ثقيلة الوطأة خفيفة المضمون، لا هي تستثير الحماسة ولا يمكن إدراجها في باب الطرائف، وتتراكم صور المرشحين بعضها فوق بعض، ويبقى المواطن بوجه الإجمال بعيدا، لا يتحمس إلا إذا استنفرت طائفيته أو مذهبيته: لا هو يريد أن يقاطع ولا هو يستطيع أن يشارك، فالمقاطعة سلاح فاسد يؤذي حقه في الديموقراطية أكثر مما يؤذي المستفيدين من غيابها من ركاب »البواسط« و»المحادل«، أما المشاركة فتكاد تكون مساهمة في الترويج لديموقراطية شكلية، بل هي مزيفة في العديد من الحالات.
ولولا بعض الفروقات الطفيفة في الأشكال وأحجام الصور و»عصرية« الشعارات، والاختلاف في أسماء الأبناء عن آبائهم، لتوهم هذا المواطن ان الانتخابات إنما تجري في أواخر الأربعينيات أو في صدر الستينيات أو في أوائل السبعينيات، لا فرق.
على أن »اللعبة الانتخابية« تجري الى مستقر لها، لا تحمل وعدا بتغيير، ولا تبشر بجديد يكسر حلقة »التقاليد« الثابتة، والتي تقضي في جملة موجباتها أن يبدِّل النظام في واجهته بين الحين والآخر، أما ثوابته فباقية لا تحول ولا تزول.
… أما ان تبدت إشارات الى تغيير ما فهو اختفاء أو إخفاء بعض الوجوه المشرقة أو الواعدة أو المبشّرة بتقدم ما على طريق الممارسة الديموقراطية، إذ تنبذها »التحالفات« المفصلة على القياس، أو يستبعدها ويعمل على طردها أولئك الذين لا يستطيعون فرض دكتاتوريتهم وتحكمهم »بالارادة الشعبية« إلا إذا مارسوا »ديموقراطية« الرأي الواحد و»انتخبوا« بصوتهم المفرد من يرونه »مناسبا« باعتبارهم أوصياء على الشعب القاصر وقيمين عليه، ولا يريدون له أن يجرح يده بسكين الديموقراطية… المستوردة!
تقرأ البيانات، حكومية أو سلطوية ومعارضة، فإذا هي تستخدم التعابير ذاتها، وتطرح في برامجها المطالب ذاتها، وقد تخطئ في نسبة الكلام، هل هو للقائم بالأمر أم للقائم عليه؟!
لا يقتصر الأمر على أن أهل السلطة يسرقون منطق المعارضة،
فثمة العديد من العقائديين الذين اشتهروا بصلابتهم في مواجهة »الطغمة الحاكمة« و»تحالف الإقطاع والسلطة والمال« يستعيرون الآن منطقا مهادنا لهؤلاء جميعا، ومنافقا في العديد من الحالات..
كذلك فإن ثمة بين التقدميين من يطمحون إلى التحالف مع عتاة الرجعية،
وبين العلمانيين من يبادرون إلى الاصطفاف تحت راية الطائفيين،
وبين الأثرياء ومستغلي النفوذ مَن ينطقون بمطالب الفقراء،
وبين الكيانيين من يستعير منطق العروبة، وبين العروبيين من ينافق الطوائفيين باستخدام المنطق الكياني.. وشبه العنصري!
حتى إسرائيل لها عبر المتعاونين أو المتعاملين معها، قديما وليس الآن ومع موجة المقاومة والتحرير صورة في بعض لبنان مناقضة تماما لصورتها في البعض الآخر من لبنان، فإن لم تكن هي الحليف تماما فإنها »النصير« إذا ما اشتدت الحاجة إليه!
إن الحكومة تبدو وكأنها انشقت على ذاتها، فخرج منها معارضون أكثر مما بقي فيها من »الموالين«.
والمعارضات تأخذها حركة المد والجزر من رفع الصوت احتجاجا على السلطة بزيادة جرعة النفاق لدمشق، إلى التلميح بنقد »التدخل السوري« من تحت خيمة الحرص على السلطة واستقلالية قرارها.
* * *
من باب الاستدراك ولحظ ما لا يجوز إغفاله، لا بد من هذه الإضافة:
يكاد لبنان يختنق تحت وطأة أزمة اقتصادية طاحنة، بين عناوينها الدين العام والكلفة الباهظة لخدمته، والركود الاقتصادي الشامل ومن ثم الضائقة المعيشية التي تضغط على اللبنانيين عموما، من كان مصنّفاً طبقة وسطى هي الآن في طريق الاندثار، ومن كان محسوباً بين الصناعيين والتجار يقترب بعضهم من الإفلاس، إضافة الى العمال والموظفين والأجراء، ومعهم بطبيعة الحال: أولئك الذين اختاروا الإفلاس السريع عن طريق الزراعة بمختلف أصنافها.
بالمقابل: فإن خطر لأي مواطن أن يحتسب ثروة كبار المرشحين للانتخابات النيابية لوجد أنها تفوق بمجموعها قيمة الدين العام.
هذا لا يعني بأي حال ان هؤلاء الأثرياء هم المسؤولون عن الدين العام أو المطالبون بسداده،
لكن هذه الواقعة تطرح سؤالا طريفا: لماذا يتقدم الأغنياء لقيادة العمل العام في لبنان وهو يقف على شفا الإفلاس؟!
قد يقال إنهم يملكون الحل، لأنهم أصحاب رؤية وأصحاب تجربة ويعرفون أصول اللعبة المالية في العالم…
وقد يكون هذا صحيحا، ولكن التجربة دلت ان الديموقراطية الناقصة أو المشوّهة أو المعلّبة لا تعطي فرصة جدية للحكم بالفشل والنجاح، ما دام الشعب غائبا أو مغيّبا سواء في ظل حكم »متوسطي الحال« كما في ظل الموسرين،
فمع غياب أو تغييب الديموقراطية تختفي المعايير والمقاييس وتستحيل المحاسبة وتسود حال من الالتباس فإذا ما يقوله الكل في الكل صحيح،
أما المواطن فيزداد فقرا ويأسا، ولا تنفع اللعبة الانتخابية بمجرياتها الحالية في تمتين ارتباطه بأرضه…
فكيف إذا غاب أو تمّ تغييب بعض الوجوه التي كان وجودها في المجلس النيابي يعطيه شهادة ولادة ليست مزورة تماما وإن كانت وجوه النقص والخلل والتشوّه تكاد تنفي عنه علة وجوده وتجعله كمنتحل صفة: الديموقراطية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان