الثورة التي تتكرر أحداثها بتصعيد شعبي، يوماً بعد يوم، منذ أشهر دليل أن الحكم الديني بعد ما يقارب الأربعين عاماً قد فشل. معارضة الناس للنظام الديني تؤدي الى مواجهة دموية هي حتى الآن من طرف واحد. الصدام يومي بين السلطة وجماهير الناس. لا يبدو أن النظام الديني الحاكم سوف يستطيع احتواء الثورة أو قمعها. هو نظام يزعم أن له تكليف شرعي، بمعنى إلهي، والناس بغالبيتهم غير مقتنعين أن هؤلاء الملالي على صلة بالله ليأخذوا توكيلاً منه. كل ما لديهم هو تخريجات فقهية يصدرونها لانتزاع السلطة. وهذه السلطة لديها معارضات كثيرة داخل المؤسسات الدينية، رغم الادعاء بغير ذلك. في نظر الناس هو حكم صاغه بشر لأغراض بشرية، بقيادة تدعي القداسة، بأسلوب يتبنى مختلف أساليب القمع والإكراه. وفي نفس الوقت يمزق أوصال الدولة ويحيطها بأجهزة أمنية وعسكرية وايديولوجية لإضعاف أجهزة الدولة الرسمية، لتحل مكانها جحافل من الباسيج، والحرس الثوري، والملالي المتخرجون والمتحلقون حول الحوزات الدينية، والذين يزودون النظام بالايديولوجيا الدينية التي تبرر السلطة وممارسة الاستبداد، الى جانب الإثراء على حساب إفقار الناس، وربما تجويعهم. إيران دولة نفطية فيها كل مساوئ الدولة النفطية، في بلد متخلّف، الى جانب خطر الحرب الأهلية الدائم بسبب الفجوة الكبيرة بين ثروات القلة وفقر أغلبية الناس.
انطلقت الثورة هذه المرة من رفض الناس لأسلوب العيش المفروض عليهم. حجاب مهسا أميني، أو غيابه، أو نسف العمامات عن رؤوس الملالي دليل على أن ثقافة الناس هي غير ثقافة الطبقة الحاكمة. لا خلاف على الدين. فالإيرانيون معظمهم مسلمون، لكنهم يريدون ثقافة أو أسلوب عيش غير ما يفرض عليهم. صار الحجاب المفروض على الناس رمزا للقمع. وهو غير مؤكد أنه فريضة إسلامية. فالناس مسلمون منذ ما قبل الحجاب بوقت طويل. ولا ضرورة للتشكيك بإسلامهم.
بعد أربعين سنة على ما يُسمى “الثورة الإسلامية” يبدو أن في إيران ثقافتين. واحدة يتمسك بها الملالي وأهل السلطة، والثانية تطرح ثقافة أقل تشدداً، هدفها المجتمع المفتوح، حيث الحريات الفردية هي المقدسة، وهي غير مسموح بها لدى النظام. المجتمع المفتوح يستدعي السماح، والحوار، والنقاش، والسؤال، ويستبعد أن يكون أسلوب العيش ما يقرره مصدر واحد في النظام باسم الدين والتكليف الشرعي.
يرتكز النظام على مبدأين، أولها مصادرة الدين؛ ثانيهما تصدير المذهب، مع الدعوة لتصدير السلطة السياسية الى بلدان أخرى. هو نظام دعوي، يعتقد أربابه أن مصادرة الدين تؤهله لإنشاء امبراطورية، مما له آثار كارثية على إيران التي تعمتد صادراتها على 80% من النفط، كأي دولة نفطية أخرى. هي دولة نفطية تزينها الدعوة الدينية. كلفة ذلك عالية مالياً. وهي ترهق الاقتصاد الإيراني مما يجعل للثورة دوافع اقتصادية إضافة الى الثقافية.
يمكن للسلطة أن تبرع في إنتاج بعض السلع، خاصة الأسلحة أو بعضها على الأقل، لكن ذلك لا يكون إلا على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى، مما يؤدي الى إفقار الغالبية العظمى من الناس. جاراتها من روسيا الى دول الجزيرة العربية تعاني الواقع ذاته، والدول الكبيرة منها لديها أحلام امبراطورية أيضاً.
لا يمكن تصنيف هذه البلدان إلا أنها تسير في ركب النيوليبرالية التي تسود العالم، وإن زعم حكام الدول العظيمى أنهم في مواجهة مع الامبراطورية العظمى أو ما يُسمى “الرجل الأبيض” أيضاً. يشير تعبير الرجل الأبيض الى الامبريالية. لكن مواجهة الامبريالية شيء ومواجهة الرجل الأبيض شيء آخر. ففي ذلك رفض لناس الامبريالية وانضمام الى نظامها النيوليبرالي الذي هو في نهاية الأمر نظام امبريالي. عنصرية معكوسة. عداء ليس ضد النظام الاجتماعي-السياسي للامبريالية، وآخر أشكالها النيوليبرالية، بل ضد الإنسان في مجتمعات دولها مهيمنة على العالم.
قال الشاعر (مجنون ليلى):
فأصبحت من ليلى الغداةَ كقابضٍ على الماء خانته فروجُ الأصابعِ
إن حالة الإنكار التي يعيشها النظام الإيراني تجعله مثل ” القابض على الماء”. إذ أن السلطة لا تكون إلا حالة رضاء متبادل بين الحاكم والمحكوم، بالأحرى المحكومين. متى فقدت حالة الرضا لدى الناس يصير النظام استبدادياً، والاستبداد مرفوض شرعاً، حيث “لا إكراه في الدين”. لم يخرج الشعب الإيراني على الدين وإنما على تفسيره في الإطار الذي يفرتضه النظام. الحجاب ليس من أركان الدين. وللمؤمنين والمؤمنات القبول به أو رفضه. كما أن العمامة ليست من الأصول الدينية، إذ لا يفترض الدين لباساً مميزاً لأي كان، بما في ذلك الملالي. والقول “لا رهبانية في الإسلام” يفترض ذلك.
لم يعد النظام مقنعاً للمحكومين، وهم غالبية الشعب. فصارت السلطة “كالقابض على الماء”. وصار استمرار السلطة غير ممكن إلا بالاستبداد والقمع. وهذه آفة المجتمعات الإسلامية جميعها.
السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعاً هو ” لماذا هذه الحال في هذه المجتمعات”!
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق