من منا نقل الفيروس اللعين إلى الآخر؟ سؤال ظل يتردد في داخل كل منا على مدى أيام وليال. لا أظن أننا توصلنا إلى هوية المذنب الأول، ولن نتوصل. كلنا في المرض سذج. كيف خطر ببالنا أننا يمكن أن نتعرف بالدقة المتناهية على الطرف أو الشئ الذي تولى مهمة نقل الفيروس. هذا على افتراض أننا عرفنا، وبالدقة المتناهية أيضا، تاريخ وساعة النقل. وهذه تحتاج كما صرنا نفهم إلى تقدير أيضا علمي ودقيق للمدة اللازمة للفيروس ليتأهل لدور جديد مع ضحية جديدة. بطبيعة الحال، لم تتوفر لي، ولا لشركائي في رحلة اقتفاء آثار الفيروس الذي اتهمناه بالانتساب لنا بالقسر أو بالتحايل وفي كل الأحوال بدون أخذ رأينا أو استشارتنا، أقول إنه في كل الأحوال لم تتوفر لنا أي معلومات دقيقة وأجبرنا على أن نعيش مع الفيروس والشكوك، وما ألعنها شكوك، مددا تراوحت.
كنت أزعم، وأحيانا عن صدق، أن مناعتي ضد نزلات البرد قوية. شجعني هذا الاعتقاد على التساهل في اختيار ملابس للشتاء وأخرى للصيف. لا أتحفظ بشدة على دعوة مفتوحة لقضاء سهرة شتوية في مكان مفتوح. لا أفكر مرتين قبل الترحيب والتوديع بالأحضان دائما وبالقبلات غالبا. كثيرا ما قضيت خريفا يعقبه شتاء لا يمسني فيهما فيروس إنفلونزا، أو يمسني دون أن أدري. لعله صار هو نفسه أدرى بشعاب صدري، لا يتوق إليها وإن كُتِب عليه دخُولها دَخَلها وكله حرص ألا يتوه فيها واثقا فيما يبدو من أنه لن يجد منها تشجيعا على المكوث طويلا. يعرف طريق الخروج ويحرص دائما ألا يخلف وراءه آثارا مزعجة أو ضارة.
ذكرتني صور فوتوغرافية بأن مناعتي ضد الإنفلونزا لم تكن دائما قوية. أذكر كيف كان احتقان الحلق مرضا مقيما طوال مدة طفولتي. أشفقت أمي فرفضت بكل العناد الممكن إجراء عملية اللوزتين في وقت مبكر. كبرت وكبرت معي اللوزتان حتى جاء يوم تعرضت فيه لغزو مبين من فيروس إنفلونزا. تسبب الغزو في انتفاخ اللوزتين بأكثر من المعتاد فانسدت تماما منافذ الهواء ومجاري الطعام. قيل لي، وكان القائل هو الزميل وائل فهمي. قال إنه تلقى اتصالا هاتفيا وكان على الطرف الآخر صوت هامس يستنجد. أدرك أن الصوت الهامس صوتي وأنني اقترب جدا من حد الخطر. كنت أقيم على بعد خمسة عشر كيلومترا وهى المسافة التي قطعها مع سيارة إسعاف في دقائق معدودة. له ولنفر بسيط من أطباء تونسيين الفضل في إنقاذ حياتي من براثن فيروس عرف مواقع الضعف في جدار مناعتي فاخترقها غير مبال بحياة كان يمكن أن أفقدها لو تأخر وائل في الاتصال بالإسعاف أو فشل في تفسير استغاثتي الهامسة عبر الهاتف.
اللعنة على الكورونا. سمعت الحكاية تُحكي بطريقة مختلفة من كل شخص شاء أن يحكيها بنفسه منقولة عن غيره أو بابتكار ذاتي. فيروس مثل فيروسات عديدة تهاجم ثم تختفي لفترة قبل أن تعود بمواصفات جديدة. في قول آخر هو فيروس اصطناعي يتمتع بقوة استثنائية مثل غيره من إبداعات الذكاء الاصطناعي. فيروس يستطيع أن يهزم وحده دولة بعظمة وعنفوان الولايات المتحدة. لا حاجة به لأساطيل وأقمار اصطناعية وصواريخ عابرة للقارات ليحدث الدمار الشامل أو الخراب العظيم. هو آخر خطوة على الطريق نحو يوم القيامة. الكورونا ثمرة المؤامرة “أم المؤامرات”. وفي قول آخرين هو فيروس لا يختلف عن أشقائه وأعمامه وأخواله سوى في أنه ولد في عصر السوشيال ميديا. للميديا دور لا يُغتفر ولا يُنكَر في صنع الكورونا أو تجميله أو تضخيمه والتهويل في بشاعته، دور لم يتح لأي فيروس آخر حتى تلك التي تسببت في أوبئة وكوارث أطاحت بملايين البشر في القرن الماضي وحده.
أيا كانت نوايا وانطباعات رجال السياسة والحرب في دول سباق التسلح والهيمنة لا أظنهم غافلين عما فعله فيروس الكورونا على كافة الأصعدة في فترة لم تتجاوز أسابيع معدودة. ولا أظن بعضهم غافل عن أن الفوضى الدولية الراهنة كفيلة بالتسبب في كوارث بشرية لن يكون أقلها شأنا التوترات المتفاقمة داخل مجمل العلاقات الاجتماعية. عاد الصديق والزميل الدكتور محمد المخزنجي في مقال له والذي نشر مؤخرا عن الكورونا في مجلة Scientific American، عاد يذكرنا بالتهديد الذي تمثله البشرية على وجودها إذا لم ينتبه قادة السياسة إلى خطورة أوضاعنا الحالية.
أما أنا فأعود إلى التذكير بأننا دخلنا مرحلة جديدة في حياة البشر. الناس في هذه المرحلة يعيشون عمرا أطول في صحة أوفر. قضيت ساعات في الأيام الماضية أتصل بأقران من كبار السن أذكر أكثرهم، بعض هؤلاء هم من أصحاب الشكوى الدائمة من اعتلال صحتهم وانتقادهم ظروف المعيشة، أُذكّرهم بآبائنا الذين توقفوا عن العمل وانعزلوا أو رحلوا عن العالم في سن مبكرة. أولادهم، أي نحن، عشنا سنوات أو عقودا بعد رحيلهم ولا نزال نعمل ونتلاقى ونقيم علاقات جديدة ونطارد الفيروسات بحماسة تفوق حماسة الشباب، إنه بحق وبدون مبالغة، عالم كبار السن.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق