يستطيع اللبنانيون أن يهوِّنوا على أنفسهم مصاب التمديد حين يتبيّنون أنهم ليسوا وحدهم المبتلين بهذا الداء الوبيل،
فمن خلال استعراض سريع لمدى انتشار هذا »المذهب« السياسي، يمكن للبنانيين أن يهدأوا وأن يتعزوا، ولو قليلاً، من خلال تثبّتهم من أن »التمديد« أو »التجديد« ليس بدعة لبنانية، أو »مستحضرù سوريù« لعلاج حالة مرضية طارئة في لبنان!
التمديد »شعار« أو »نهج« أو »سياسة« بل ربما »استراتيجية« دولية معتمدة يسعى إليها »الكبار« ويسير في ركابها »الصغار« من باب »التقليد« ووفقù لقاعدة التشبّه بالكرام!
فرئيس القوة العظمى الوحيدة الآن في الكون، بيل كلينتون، يعمل جاهدù ويقاتل بكل الأسلحة المتاحة من أجل تمديد ولايته أربع سنوات إضافية،
وإسحق رابين يحطم الكثير من الخطوط الحمر من أجل تمديد ولايته على رأس السلطة في إسرائيل،
بمزيد من التفصيل يمكن القول: إن بيل كلينتون يريد التمديد لنفسه بإسحق رابين والسلام الأميركي في الشرق الأوسط الإسرائيلي،
وإسحق رابين يطلب التمديد لنفسه بتقطيع أوصال فلسطين، الأرض والشعب والقضية، وسحب ملفها نهائيù من التداول العربي والدولي، فيتمّ له ما يريد وبتوقيع »القيادة الفلسطينية« على مشروع إدامة إسرائيل وتأمينها مستقبلاً،
وياسر عرفات يطلب التمديد لقيادته، فيدفع الثمن سلفاً من تراب فلسطين ومن حقوق مواطنيها السياسية،
والملك حسين يحاول تأمين التمديد لعرشه بالحماية الإسرائيلية والتمويل الأميركي والكونفدرالية الفلسطينية، ويناور داخل العراق ليستعيد النفط والمساعدات من السعودية (والكويت) كتعويض متأخر عن الإرث الملكي المضيَّع،
وحسني مبارك، الذي زهد ذات يوم في ولاية ثالثة والذي يقاتل بأسنانه الآن من أجل ولاية خامسة، يريد التمديد لنفسه بكلينتون ورابين وعرفات والملك حسين وعمائم »الإسلاميين« في آن،
أما صدام حسين فيخرج من »الشرعية الثورية« ويدخل إلى نعيم الديموقراطية الأميركية، ويتلف أسلحته الجرثومية والبيولوجية، وينخرط في السلام الإسرائيلي متطوعù وبغير طلب، تأمينù لولاية جديدة مفتوحة وبالانتخاب الشعبي المباشر (!!) هذه المرة، بينما يضطر مواطنوه إلى بيع أجسادهم بالجملة والمفرق لكي يوفروا لأطفالهم الدواء ولقمة الخبز!
وأما معمر القذافي، المنسي داخل جدران العزلة والحصار، فيقتحم المسرح معلنù قراره الثوري العجيب بطرد الفلسطينيين من ليبيا ليذهبوا لبناء دولتهم العتيدة على أنقاض الكيان الصهيوني،
وفلسطين تكفي الجميع، ولكلٍ منها نصيب!
* * *
التمديد، عالميù، هو »الموضة الآن: مثل الهمبرغر والجينز والهارد روك والهاتف الخليوي وفتح الخطوط البرية والبحرية والجوية والمائية والمالية مع إسرائيل،
لكن ثمة فارقاً جوهرياً بين نوعين من التمديد: فهناك تمديد هجومي، كالتمديد لرابين باستفتاء شعبي إسرائيلي على فلسطين، وهناك تمديد »استشهادي« كذلك الذي يطلبه صدام حسين بدخوله حلبة المزاد العلني وإعلانه المسبق أنه سيعطي إسرائيل ما لم تأخذه من أحد، ويذبح العراق تأكيدù لجديته وإخلاصه!
على أن المشترك بين مختلف أنواع التمديد أن لا أحد من الممدِّدين لأنفسهم يدفع من كيسه،
فالحساب »عربي« دائمù، وليس كمثل »العربي« سخاءً في دفع فواتير الآخرين!
* * *
أين يقع حديث التمديد للرئيس اللبناني فوق هذه الخريطة العالمية لسوق التمديد؟!
تتسم الدعوة للتمديد، لبنانيù، بطابع اعتذاري يؤكد طبيعته الدفاعية،
من صاحب العلاقة، مباشرة، إلى الدعاة جميعهم بالمحليين منهم و»الخارجيين« المعنيين والمثقلين بهموم الشأن المحلي، يبادرونك بلهجة تبريرية: نعرف أن التمديد أمر غير شعبي، بل ربما لا شعبية له، لكنه ضرورة سياسية حيوية في هذه اللحظة السياسية الحرجة،
وخلاصة الخلاصة في هذا المنطق التبريري: لأن الهجوم شرس وشامل، فلا بد من تدعيم جبهتنا بتثبيت دعائم الاستقرار فيها، لا نملك القدرة للقيام بهجوم مضاد، إذاً فلا بد من الصمود خلف خطوطنا، لعلنا ننجح في كسر حدة الهجمة الشرسة، مستولدين نتائج سياسية جديدة قد تسمح بتعديل ميزان القوى الحالي بتحالفاته غير الطبيعية والتي نفترض أنها غير قابلة للحياة!
كاريكاتورية هي تفاصيل المشهد العربي (سابقù) أو الشرق أوسطي (كما يراد أن يكون اسمنا الجديد):
بأفضال ياسر عرفات تعزّزت قوة إسحق رابين الأميركية، فبات صوتù مرجحù في انتخابات بيل كلينتون،
وبسبب الذعر الأردني من مخاطر الشراكة الإسرائيلية الفلسطينية، اندفع الملك حسين يبيع جلود الدببة سواء تلك التي اصطادها أو لم ينجح في اصطيادها في حروب الزمن الماضي (العراق وممالك الجزيرة والخليج)،
وبسبب من تهالك النظام المصري أمام الضغوط الأميركية هرول لإنجاز »الاتفاق« الفلسطيني الاسرائيلي الجديد في طابا، مع علمه أنه اتفاق من طرف واحد، وأن الاسرائيلي وقّع على ما يعرف سلفù أنه غير قابل للتنفيذ، وأنه لن يُنفَّذ من البنود إلا ما يلغي من فلسطين ما يعزّز الدوام والأمان والاستقرار لإسرائيل،
على هذا، فمن حق هؤلاء على الرئيس الياس الهراوي أن يتوجه إليهم بالشكر العميم: فهم أصحاب الفضل في طرح موضوع التمديد وفي تبريره، وفي جعله ضرورة سياسية!
أما السوري فهو مضطر الى استخدام هذا السلاح الدفاعي، مع وعيه الكامل بطبيعته الهشة وافتقاده إلى الشعبية والفاعلية، عملاً بقاعدة »الضرورات تبيح المحظورات«، وانطلاقù من أن الأعداء والخصوم يخوضون ضده وضد كل ما يمثل معركة فاصلة، ولن يتورّعوا عن استخدام أي سلاح، أو عن الضرب تحت الزنار!
ولقد يذكر التاريخ، غدù، أن »التمديد« كان آخر إنجاز »فلسطيني« في لبنان!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان