أما وأنه شهر التسوق وموسم المسابقات بجوائز ثمينة، فلا بأس من دعوة جميع من يهمهم الأمر إلى الاشتراك في مسابقة مختلفة نوعاً، سؤالها بسيط جداً ومختصر جداً ونصه التالي: كم دولة في لبنان؟!
قد يبدو السؤال »فخاً« أو »كميناً« أو محاولة استدراج لكشف الانتماء الطائفي للطامع بالجائزة، لكنه في واقع الأمر »امتحان سياسي« لتحديد عدد »اللبنانات« انطلاقا من تحديد ولاءات »اللبنانيين« على اختلاف مللهم ونحلهم وولاءاتهم التي تتجاوز الدولة إلى »مرجعياتهم« الأصلية السابقة على قيامها أو المعطلة لقيامها بعدما صاروا »أصحابها«.
إن »الحوار« المتعدد الأصوات الذي تضج به البلاد هذه الأيام يفضح واقعا بشعا: إن ثمة طائفة أو طوائف ترى نفسها قد خرجت أو أُخرجت من الحكم (المطلق ضمن الديموقراطية!)، فانعزلت بنفسها بعيدا عن الدولة، في انتظار »المصالحة الوطنية«.
بالمقابل ثمة طوائف ترى أنها قد نالت حقها أخيرا فدخلت جنة الدولة، وبادرت إلى احتلال مساحة الفراغ، حيثما وجدت، تعويضا عما فاتها، من جهة، وتأمينا للانتظام العام، وفق مفهومها، باعتبارها الآن صاحبة مصلحة في »الدولة«، و»هذه الدولة« على وجه التحديد.
ربما لهذا يتبدى »للدولة« أكثر من وجه، بحسب المناطق والانتماء الطائفي لسكانها… ففي الجنوب هي »شيعية« الملامح، وفي الشوف »درزية« وفي المتن وكسروان »مارونية«، وفي طرابلس وحتى عكار »سنية« بينما هي من زغرتا فما فوق »مارونية«، وفي الكورة »أرثوذكسية«، وفي زحلة »كاثوليكية« بينما في البقاع الأوسط »سنية«، وفي البقاع الشمالي »شيعية«، أما في ساحل المتن فهي »أرمنية« بامتياز، وسواء اتفقت الطوائف الأرمنية أو اختلفت على المقعد الثاني في حكومة الثلاثين.
أما بيروت حيث تتلاقى الطوائف جميعا ويستحيل التفرد بالقرار فيبرز »وجه« شبه علماني لدولة الطوائف المتحدة اضطرارا والمقتتلة ضمنا.
ربما لهذا يستشعر »الوطني« في لبنان شيئا من »اليتم«.
وربما لهذا، في جملة أسباب عديدة أخرى، تهاوت حتى كادت تندثر الأحزاب العلمانية، يسارية كانت أو يمينية، قومية كانت أو أممية.
وربما لهذا تصعب حماية الإنجاز الوطني والقومي في لبنان، خصوصا متى اتصل بالدولة أو فرضت عليه الضرورة المرور بأجهزتها وإداراتها ذات الحصانة.
* * *
في هذا السياق يمكن الحديث عن مفارقة لا يقبلها عقل، ومضمونها:
ان هذا الشعب الذي استطاع أن يدير (أو يتحمل إدارة) عملية التحرير، وهي عملية عظيمة الكلفة وشديدة التعقيد في مواجهة عدو هائل الإمكانات وفائق التقدم، يُراد له أن يبدو عاجزا عن إدارة مرفق حيوي وله صلة مباشرة بحياته هو: مستشفى مرجعيون الحكومي؟
فالذي حدث أن هذا المستشفى الذي كان يوفر العديد من الخدمات الطبية لأهالي المنطقة التي كانت تحت الاحتلال، قد تعثرت إدارته وتناقصت خدماته وتفرّق كادره الطبي وأصابه الشلل حتى أقفل أبوابه أو كاد، قبل أيام… ثم بعد جهود مكثفة، ومساعٍ حميدة، ووساطات وشفاعات وتخوف من أصداء الفضيحة، صدر قرار »العفو« عن المستشفى، وأجيز لبعض من كانوا مدانين بتهمة »التمرد« أو »العصيان« أن يعودوا إلى متابعة عملهم في استقبال المرضى والاهتمام بهم في هذه المنشأة ذات التاريخ العريق، والتي قامت أصلاً بمبادرة أهلية.
لماذا، ومَن المسؤول تحديدا؟!
هل العيب في الإدارة؟ في الأطباء؟ في الممرضين وسائر العاملين؟! أم انه يتصل بتبدل »المناخ« السياسي، و»القوى الجديدة« التي جاءت مع التحرير فتسلمت مقدرات المرافق في المناطق المحررة، ولو بصيغة مؤقتة، أو بقوة الأمر الواقع وتلافيا للسقوط في الفراغ؟!
وكيف يمكن أن نفسر أن هؤلاء جميعا كانوا يعملون، طوال فترة الاحتلال، بانتظام، وكان المستشفى يستقبل الحالات المرضية، عادية أو طارئة وناجمة أساساً عن مسلسل الاعتداءات اليومية التي كان يرتكبها العدو الإسرائيلي ضد الأهالي في المناطق المحتلة؟
ثم، هل حدث كل الذي حدث مصادفة، أم أنه بفعل فاعل؟
لكأنما هناك مَن يريد أن يصور الاحتلال وكأنه يعني حسن الإدارة والطبابة والاستشفاء والصحة (فضلاً عن الرفاه؟!)، بينما التحرير يعني الموت عند باب المستشفى لتعذر توفير العناية والعلاج.. وإجمالاً عدم الاهتمام بالناس!
كما في المناطق السابق تحريرها؟!
ومفهوم أن تكون المنافسات والمناكفات الحزبية قد استعرّت مع سقوط ليل الاحتلال، وأن يكون كل تنظيم »عائد« بأعلامه و»عجقته« ومحازبيه ومناصريه والأناشيد قد حاول إعادة تأكيد حضوره، ومن ثم نفوذه.
ولكن ما ذنب المستشفى والمرضى؟!
إن المسؤولية لا تنحصر بجهة معينة، والأمر لا يتصل فقط بمستشفى مرجعيون. إنها تطال الجميع: الدولة أولاً، بأجهزتها المختلفة، ثم التنظيمات التي ساهمت بهذا القدر أو ذاك في »التحرير« ثم حاولت توظيفه لأغراضها أو استثماره لتوكيد نفوذها و»شراء« الشعبية.. على حساب الدولة والمواطن، وقبلهما: التحرير!
إن هذه التنظيمات بمنافساتها التي سرعان ما تحولت إلى مناكفات، تقدم تزكية »شعبية« للاحتلال، فتظهره وكأنه أكثر نفعاً للأهالي، وتكاد تجعله مصدر الصحة بينما هي مصدر تفاقم المرض والاعتلال.
إن الأجهزة الحكومية تتذرع بهيمنة التنظيمات على القرار في المناطق المحررة، وتحملها ضمنا في الغالب وعلنا أحيانا المسؤولية.
والأجهزة الحكومية، بل الدولة جميعا، تتصرف حتى الساعة وكأنها »لاجئ سياسي«، أو كأنها وافد غريب جاء يتطفل على المسؤولين القائمين بالأمر.
ولعلها قد وجدت في الحالة الشاذة القائمة ذريعة للامتناع عن تقديم الخدمات الحيوية (الطرق، الكهرباء، المياه، الزراعة، والمدارس إلخ).
وهكذا تلتقي الأجهزة الحكومية مع التنظيمات على »تزكية« الاحتلال وتدفع الناس إلى »الترحم« على أيامه!
لقد رأينا وزير الداخلية في القليعة بسبب حادث أمني وارد وقوعه في أي يوم.
فلماذا لا نشهد مثل هذه السرعة في المبادرة عندما يتصل الأمر بالخدمات التي يحتاج إليها الناس لكي يصمدوا فيبقوا في أرضهم وقد تحررت؟!
ثم لماذا تريد التنظيمات أن تنشئ »دولها« في هذه الإدارة أو تلك، مع الإصرار على أن تحل محل الدولة حيث تفرض الحاجة وجودها أكثر من أي مكان آخر؟!
إن التحرير يعني العودة إلى الدولة، إلى الوطن، وإلا صار أشبه بحلول ميليشيا »وطنية« محل ميليشيا »عميلة«، وظلت الدولة غائبة عن الأرض المحررة.. وعن شعبها الذي طلبها بدمه.
وبالتأكيد فإن المقاتل الجيد لا ينفع طبيبا، والميليشياوي ليس الممرض الأفضل.
والتحرير هو »دولة الجميع«، أو هذا ما ينبغي أن يكون، أما توزيعه أنصبة على الطوائف، أو على المذاهب، أو على التنظيمات الطائفية المموهة بالشعار السياسي، فلا يعني غير تشويه صورته. وهكذا نخسر التحرير ولا نربح الدولة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان