عاد سليم اللوزي من القاهرة إلى بيروت في منتصف الخمسينات، بعد رحلة طويلة مشى خلالها الفتى الطرابلسي، بداية، إلى يافا في فلسطين، حيث عمل لفترة في “محطة الشرق الادنى” ـ الاذاعة البريطانية في بثها باللغة العربية، من فلسطين، قبل أن تنتقل، في ما بعد، إلى قبرص.
وصل سليم اللوزي، الشاب الطموح إلى بيروت، وقد امتلأ بالخبرة بعد سنوات من العمل في بعض اهم دور الصحافة في قاهرة الخمسينات: روز اليوسف ودار الهلال.
أما “روز اليوسف”، فكانت مجلة الفنية التي حولتها صاحبتها فاطمة اليوسف، طرابلسية الاصل والتي بدأت عملها في المجال الفني وتزوجت من ممثل مغمور “محمد عبد القدوس”.. فلما كبر نجلها احسان عبد القدوس حولها إلى مجلة سياسية، معارضة، ثم اشتدت معارضتها وعنفت حتى باتت “لسان الثورة” التي انتهت بخلع الملك فاروق في 23 يوليو (تموز) 1952.
ولعل سليم اللوزي قد افاد من “طرابلسيته” في التقرب من السيدة فاطمة اليوسف، فيسرت له فرصة العمل في مجلتها، ثم زوجته من ابنتها من زواج سابق، وقربته… لكن احسان عبد القدوس ظل يعامله كمحرر مجتهد، لكنه في البداية والنهاية “وافد”.
بعد ذلك انتقل سليم اللوزي إلى مجلة “المصور”، وعمل كمراسل متجول، مما وفر له فرصة ممتازة للتطور، والتعرف إلى اساليب أخرى في العمل الصحافي، من ضمنها اهمية “الصورة” فيه.
وهكذا فان سليم اللوزي قد وصل إلى بيروت “مكتمل التكوين” بالمعنى المهني، ومتخرجاً من مدرستين متمايزتين في العمل الصحافي: الأولى تعتمد المقالة والكاريكاتور في التعبير عن الموقف السياسي، والثانية تعتمد الصورة والريبورتاج الوصفي.
في بيروت، بدأ سليم اللوزي التفكير في اصدار مجلة اسبوعية تكون مزيجاً من النوعين: الصورة مع الكاريكاتور، والمقال السياسي مع الريبورتاج المصور.
في العام 1956 اصدر سليم اللوزي مجلته “الحوادث” في بيروت، جامعاً معه فيها عدداً من الكتاب والصحافيين.. محاولاً التوفيق بين خطين متوازيين لا يلتقيان: جمال عبد الناصر وكميل شمعون (الرئيس في لبنان آنذاك).
على أن تيار المعارضة السياسية في لبنان كان يتعاظم قوة، وكان لا بد أن يحصل “الصدام”، وقد وقع فعلاً: اذ أن قوات الامن حاولت منع اجتماع حاشد للمعارضة في “ارض جلول” ـ الطريق الجديدة، فاطلقت النار عشوائيا مما اوقع عددا من القتلى بين المتظاهرين… وشاءت المصادفات أن تقتل خادمة سليم اللوزي، وهي داخل بيته في شارع حمد.
كانت تلك نقطة التحول في موقف اللوزي، وبالتالي مجلته “الحوادث” التي تحولت إلى لسان حال للمعارضة السياسية..
صار سليم اللوزي معارضاً شرساً، وكتب ـ بجرح الاعتداء على بيته بالرصاص ـ يهاجم الرئيس شمعون وعهده.. فرفعت ضده قضايا وحكم عليه بالسجن لمدة شهر، أمضى بعضها في سجن الرمل، وبعضها الاخر في سجن مستشفى الكرنتينا، حيث كان يُحجز “الوجهاء”.
نتيجة ذلك كله، صارت “الحوادث” المجلة السياسية الأولى في بيروت واستقطبت العديد من الكتاب والصحافيين بينهم الراحلون: منح الصلح ونبيل خوري وشفيق الحوت وغيرهم كثير..
… وعندما انفجر لبنان بالحرب الاهلية، وكان سليم اللوزي قد نقل مكتب “الحوادث” من كورنيش المزرعة إلى عين الرمانة، واشترى مطابع حديثة، رأى أن عليه أن يبدل موقفه وموقعه.. وهكذا انتقل والمجلة إلى لندن، حيث أصدر هناك مجل ثانية باللغة الانكليزية التي لا يتقنها، اضافة إلى الحوادث، التي صارت غير ما كانت عليه.
امتنع سليم اللوزي لفترة طويلة عن زيارة لبنان، خصوصاً وان حملته على النظام في سوريا بقياد الرئيس الراحل حافظ الاسد تجاوزت حدود السياسة وتوغلت في الخصوصيات والطوائفيات الخ..
فجأة، وعلى غير توقع هبط سليم اللوزي من طائرة قادمة إلى لبنان، بذريعة الحضور لتقبل العزاء في بعض أقاربه.. وأمضى اياما عدة في بيروت، وكان عدد من السياسيين والامنيين، بين المعزين.. وقد نصحه الجميع بسرعة المغادرة “لأسباب امنية”.
.. وحين قرر اللوزي المغادرة، جرى اختطافه وهو في الطريق إلى المطار… وبعد ايام اكتشفت جثته، في غابة صغيرة، غير بعيدة عن بيروت، وقد “هُرست” اصابع يده اليمنى بحجر.
وكالعادة ” قيد الحادث ضد مجهول..”!
على أن سليم اللوزي، الصحافي، قد ترك بصمته على الصحافة اللبنانية خاصة، والعربية عموماً، ولكنه ـ بإجماع الاهل والاصدقاء ـ قد تجاوز الحدود.. من دون أن يعني هذا الكلام الموافقة، بأي شكل، على قتل الاقلام واغتيال المخالفين برأيهم، للناظمة القائمة.. خصوصاً وأنها، بالإجمال لا تحترم الرأي الاخر وكرامة الانسان.
الرحلة التي انهت “مرحلة” المجلة العربية
عملت مع سليم اللوزي في مجلة “الحوادث” مرتين: الأولى مع بداية اندفاعي إلى العمل الصحافي في العام 1958، والثانية بعد حوالي عشر سنوات، وكنت قد اكتسبت خبرة جيدة في عدد من المجلات، بينها اضافة إلى “الحوادث” مجلة “الاحد” لصاحبها المرحوم رياض طه، ثم مجلة “دنيا العروبة” في الكويت التي توليت تأسيسها مع نفر من زملائي، لبنانيين ومصريين، ثم في “الصياد” بعد العودة إلى لبنان إثر غياب لم يتجاوز السنة..
في ربيع العام 1966 عدت إلى “الحوادث”، مرة أخرى، كمدير للتحرير… لكن هذه العودة لم تعمر طويلاً، اذ فاجأني سليم اللوزي، وأسرة التحرير، بقوله في اجتماع دعا اليه، فجأة، بأنه تلقى دعوة لزيارة الولايات المتحدة الاميركية، ولسوف يلبيها.
كان طبيعياً أن نعترض، وبأعلى صوت على قبول هذه الدعوة الرسمية من دولة كانت، في رأينا، شريكة للعدو الاسرائيلي في حرب 5 حزيران.
نبر سليم اللوزي بغضب: هل تعرفون كم تكلف هذه الرحلة؟
قلنا: نعم! انها تذهب بالرصيد الوطني والقومي لمجلتك “الحوادث”!..
قال وكأنه لم يسمعنا: انها تكلف اكثر من 15 الف دولار..
قلنا: اذا كنت مصراً على زيارة الولايات المتحدة بشكل شخصي، فنحن مستعدون لان نجمع لك من رواتبنا ما يكفي لقيامك بهذه النزهة..
ترك سليم اللوزي الاجتماع غاضباً.. وكان علينا أن نواجه هذا الموقف الطارئ… وهكذا انتهت علاقتي مع مجلة “الحوادث” ومع صاحبها.