أبلغ إساءة للحكم في بلد يعتمد النظام الديموقراطي هو أن “يشخصَن”، بمعنى أن يصوَّر وكأنه حكم رجل فرد، وأن “تتشخصن” المعارضة فتصوَّر وكأنها معارضة فرد أو أفراد ممّن لم يدخلوا جنة السلطة.
وأخطر ما يتعرض له الحكم، في أي بلد وكائنا ما كان النظام، هو أن يزيِّن له المستشارون والمنافقون والمنتفعون أنه يختصر البلاد كلها بشخصه، لأن الناس جميعاً يؤيدونه بغير قيد أو شرط، وبمعزل عن برنامجه وإنجازاته، وأنه قادر على اختزال المؤسسات بذاته، وصولاً إلى مخادعاته ومراءاته وغوايته بالادعاء أمامه بأن لا بأس من أن يكون رأس الدولة هو الدولة!
أما أخطر ما يتعرض له المعارضون فهو أن يحوِّلوا ممارساتهم السياسية إلى نوع من المنازلة الشخصية، وعلى طريقة “فارس لفارس”، وصولاً إلى محاولة محاصرة “المواطنين” بخيار بائس مفاده: “إما نحن وإما هو..”!
فالبلاد، أي بلاد ومهما صغرت، تظل أكبر من حكامها ومعارضيهم، وأكبر من سياسييها مجتمعين: هم من نتاجها بظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست هي من نتاجهم، وهم قد ينجحون وقد يفشلون في التعبير عن احتياجات أهلها ومتطلباتهم وربما عن طموحاتهم ولكنهم يظلون بشراً قد يصيبون وقد يخطئون ولا يمكن لهم منفردين أو مجتمعين أن يختزلوا شعبا وان يدّعوا احتكار تمثيله والنطق باسمه والتعبير عن إرادته، وكأنهم أول الخلق وآخرهم.
ظلم فادح أن يُفرض على الشعب، كل الشعب، الحصار والإكراه على تحديد موقف على قاعدة “مَن ليس معي فهو ضدي”.
ليس الشعب قطيعاً، وليس “رعية” تفرض عليها البيعة والطاعة وإلا حوسب كمجموعات من المرتدين أو الخارجين على القانون أو الكفار الممنوعين من دخول الجنة.
ومرفوضة هي كل محاولة لإلزام الشعب بتحديد موقف قاطع ونهائي من الحاكم ومعارضيه.
ليس كل من أظهر تأييده للحاكم منتفعاً أو منافقاً.
وليس كل من اتخذ موقف النقد أو الاعتراض مرتزقاً أو ملتحقاً أو مضللاً “بأكاذيب المعارض”..
وفي كل الحالات فإن منافع السلطة أغزر وأوسع وأشمل مما يمكن أن يوفره “المعارضون” لمن قد يختار تأييدهم، أو يرى في منطقهم اقتراباً من رأيه أو موقفه.
لا يمكن أن يفرض على الشعب أن ينقسم إلى حزبيتين متواجهتين: إحداهما تحتسب موالية إلى حد الذوبان في الحاكم، والثانية تحتسب “معارضة” وتتهم بأنها “تتآمر لقلب النظام”!
ليس في لبنان “مجنون”يفكر بقلب النظام، ناهيك بأن ليس فيه من هو قادر أو يفترض في نفسه القدرة (ولو وهماً) على قلب النظام!
ولم يحدث في تاريخ لبنان إن جاءه حكم استطاع الادعاء أنه “يمثل اللبنانيين جميعاً ما عدا قلة من “الخوارج”لا تمثل إلا نفسها”!
الحكم في لبنان توافق، له إضافة إلى قاعدته السياسية المفترضة، الصفة التمثيلية للطوائف، وبالتالي فالتزكية مستحيلة وكذلك الإجماع، ولا يمكن الوصول إلى “الأكثرية” إلا بالتوافق الذي كنا نسميه “الصيغة الميثاقية” الفريدة، والتي تم تطويرها بعد الحرب الأهلية فصارت قاعدتها “وثيقة الطائف”، واتخذت تجسيدها السياسي دستورياً في اعتماد مجلس الوزراء مجتمعاً قيادة للبلاد ومصدراً للسلطة فيها.
المؤسسات تحصّن الحاكم وتحمي الحكم وتضبط إيقاع المعارضة، وتقنن الصراع السياسي المشروع ديموقراطياً وتطوعه لما يخدم حاجات الناس ومطالبهم، بدل أن يظل مساحة للمزايدات التي لا توفر لا الخبز ولا العدالة ولا الكرامة!
والمؤسسات ليست أشخاصا، مهما تميّزوا بمؤهلاتهم أو بكفاءاتهم أو بقدراتهم الذاتية.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 17 آب 1999