قال لي مصطفى أمين وأنا أتقدم اليه، في مكتبه في »أخبار اليوم« بالقاهرة:
سمعت انكم قد نشرتم في »السفير« وقائع محاكمتي والحكم عليَّ.. ثم اصدرتم كتابا يتضمن المرافعات ومطالعة النائب العام؟
قلت: صحيح، كان لا بد ان نعطي لمثل هذه المحاكمة الاستثنائية ما تستحق من اهتمام.
قال بشيء من السخرية: وهل ثبت لكم انني اعمل مع المخابرات المركزية الاميركية؟
قلت: لسنا المحكمة ولسنا القاضي على وجه الخصوص. وقد تعلمنا منك ان الصحافي شاهد على عصره، وعليه ان يفصل بين الواقعة وبين رأيه. الأخبار أمانة، اما التعليق فوجهة نظر شخصية. الأخبار للناس، اما رأيه فاجتهاد قابل للصح والغلط.
قال مصطفى أمين: لست ألومكم، أعرف أننا كنا دائما مختلفين في السياسة.
قلت: وفي المهنة..
ضحك وهو يتقدم لمعانقتي قائلا: صحيح، وفي المهنة، لكنني احببت قلمك دائما.
قلت: وأنا احترمك كأستاذ كبير، احترم دأبك واخلاصك للمهنة، واحترم النجاح الذي حققته دار أخبار اليوم نتيجة جهدك وتعبك والمتابعة والشغف وسهرك مع علي أمين وسائر الزملاء.
كان ذلك قبل تسع سنوات طوال، وكانت الدنيا كلها قد تغيرت بين لقاءاتنا في الستينيات ولقائنا في اواخر الثمانينيات.
قال مصطفى أمين: لطالما حدثني عنك سعيد فريحة. كان هو الآخر يحب قلمك.
قلت: أما أنا فقد تعلمت منه الكثير، ولعلني قد أخذت عنه عنايته الفائقة باختيار اللفظة، وصياغة الجملة المشرفة. إنه نحات عظيم.
قال: مع أنك كنت تختلف معه ايضا في دور الصحافي وفهم رسالة الصحافة..
قلت: هذا صحيح ايضا. إنه الفرق بين الإخبار والتبشير. بين »القفشة« وبين التحليل الرصين. بين الصورة والرسم.
قال مصطفى أمين ملتفتا الى شركائنا في الجلسة: على اختلافنا، فإنني اعتبر »السفير« من انجح الصحف العربية، انها تتمتع بمستوى مهني ممتاز.
ثم استدرك ضاحكا: مع انني، بطبيعة الحال، من حزب »الأنوار«.
لم أعلق، فعاد يضيف: وأنت من حزب هيكل وأهرامه.. ولكنني لا اظنك مثله في اخلاقه او في مبادئه…
التفت الى جمهوره المحتشد في مكتبه وقال: لا بد من اغلى سيكار لكي تطلق اصدق الصيحات من اجل الاشتراكية!
***
عرفت مصطفى أمين في بيروت، من قبل أن التقيه بعد ذلك بسنوات طويلة جدا في مصر.
عرفته من خلال صديقه الكبير سعيد فريحة، وفي مؤسسته دار الصياد التي توليت لفترة رئاسة التحرير في نواتها الأصلية »الصياد«، ثم عملت فيها مرة أخرى كمندوب متجول اجري خلف الاحداث في مختلف العواصم العربية، فأكتب الأخبار ل»الأنوار« والتحقيقات والمحاورات في »الصياد«.
وهناك ايضا عرفت علي أمين، خصوصا انه استمر يتردد على بيروت بعدما حكم شقيقه التوأم مصطفى أمين وسجن بتهمة التعامل مع المخابرات المركزية الاميركية.
كانت العلاقة قديمة وحميمة بين سعيد فريحة وآل أمين.
وكان مقدرا لهذه العلاقة ان تتطور الى نوع من الشراكة في بعض المشروعات الصحافية لولا أن السلطات المصرية، آنذاك، اعتبرت ذلك تحايلا لتهريب العملة الصعبة فلم يرَ ذلك المشروع الصحافي المشترك النور أبدا.
وكان اثر علي أمين واضحا في »الأنوار« منذ صدورها: بل لقد جاء الى بيروت فأشرف على الماكيت وعلى تركيز دورة العمل وعلى تدريب الكادر، ثم على اطلاقها على مثال »الأخبار« في القاهرة، مع مساحة محدودة للنكهة اللبنانية.
***
في لحظات الوداع يستذكر واحدنا حسنات الفقيد، خصوصا اذا كان قد لعب دورا مؤثرا في محيطه.
لقد رحل الآن ثالث الثلاثة: مصطفى أمين، وكان قد سبقه علي أمين ثم سعيد فريحة.
بالتداعي، احب ان أتوقف للحظة عند سعيد فريحة: الرجل الذي عملت في مؤسسته سنوات، على فترات متقطعة، في الستينيات وأوائل السبعينيات.
كان فارق العمر أقل قليلا من نصف قرن، وكذلك الفارق في الخبرة.
وكان لسعيد فريحة، الاستاذ الكبير، مؤسس الدار، مطلق »الصياد« منشئ »الشبكة« ثم مصدر »الأنوار« منحى خاص في الصحافة: كان في »الصياد« »نقّاشا« يبدع في »جعبته« حكايات طريفة بقلم رشيق، وكان في »الشبكة« يغني فرحه بالحياة، بالصوت الجميل والقوام الجميل والوجه الجميل، اما في »الأنوار« فكان يعبّر عن التزامه السياسي بأسلوبه العاطفي الذي يرى الأمور من خلال قاعدة: الأبيض أبيض والأسود أسود، او الحلال بيّن والحرام بيّن ولا لقاء…
كان لسعيد فريحة أبطاله: في لبنان رياض الصلح، حتى وهو ميت، وفي مصر وعلى المستوى القومي جمال عبد الناصر يوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ولا مهادنة، وفي سوريا حزب الكتلة الوطنية برغم انه كان قد غاب في الذكريات.
ربما لهذا استغربت تلك العلاقة الحميمة بين سعيد فريحة وكل من مصطفى وعلي أمين.
فمع تقديري للدور الريادي الذي لعبه الصحافيان الكبيران مصطفى أمين وعلي أمين، فلقد كنت اراهما في موقع سياسي شديد البعد في العمق عن طروحات جمال عبد الناصر وعن الفكر القومي، ومن ثم الاشتراكي، عموما.
لكن المصالح تجمع، خصوصا ان سعيد فريحة بميله الى التبسيط قد رأى دائما إمكان الجمع بين كل الذين أحبهم او افاد منهم، مع الاحترام للعقائد والعقائديين.
رحم الله اولئك الذين تعلّمنا منهم الكثير، وأهم ما تعلّمناه ألا نكون مثلهم او مجرد امتداد لهم.
تهويمات
تدفق جسدك فملأني.
كنت ثملا بنشوتي فتهت عن الباب، ورحت اتوغل داخل الغابات المحرّمة.
تعارفنا: وشما وشما، وشامة شامة.
لن أسألك من أين، اسألك فقط: الى أين؟!
بعض الأجوبة تحط على الشفاه وتدعوك اليها. إن أنت لم تقطفها رشقتك بشوكها، مستبقية وردها زادا لعاشق في الطريق.
لن اسألك من أنت، أسألك فقط: من أنا؟!
بعض الشفاه تحمل اليك الأجوبة ارجوانا من خد عاشقة ملّت الانتظار.
***
مخز الزورق البحر في قلب السجادة المزركشة.
كنت ارتجف رعبا، وطمأنتني: يجعلنا الحب خفيفين فلا نغرق!
هبّت العواصف عاتية، هل هبط علينا السقف ام اننا ارتقينا اليه؟
شحب الضوء فانكشفت الاستار وبان ما خلف الريح.
هذا مرسانا!
من تعجل النهاية لم يصل. من وصل اضاع المعنى.
والبحر؟!
لا يسافر البحر: الزمان هو السفر. سلّم نفسك للموج وانثر حروفي طعاما للنوارس. منك اجيء اليك. مني تجيء إليّ. منا نجيء الى البحر ومنا يبدأ سفر الزمان.
رجل وامرأة
تأخذك المرأة الى المرأة. تستعيدك المرأة من المرأة.
المساحة ضيقة بين امرأتين.
هي اضيق من أن تتسع لرجل واحد.
***
تأخذك المرأة من المرأة. تعيدك المرأة الى المرأة.
المساحة هائلة الاتساع بين امرأتين.
انها تتسع للرجال جميعا.
***
تأخذك المرأة من المرأة. تعيدك المرأة الى المرأة.
لا مساحة خارج الدائرة المغلقة برجل وامرأة.
***
تأخذك المرأة الى الحب.
يعيدك الحب الى المرأة.
وبين المرأتين تنفتح هوة الغيرة عميقة تتسع للرجال والنساء جميعا.
***
الجنة رجل وامرأة.
الجحيم رجلان وامرأة، امرأتان ورجل واحد.
المسافة بين الجنة والجحيم امرأة واحدة لرجلين او رجل واحد لأمرأتين. الجحيم النساء. الجحيم الرجال. الجحيم حيث يرتطم الرجل بالمرأة فينكسر الاناء وتندلق الحياة فوق ارصفة الشقاء.
***
قال لها: كلما رأيتك احسست ان امرأة و احدة تكفي كل الرجال!
وردت عليه: ولكما رأيتك تأكدت ان الرجال واحد لا يزيد ولا يتعدد ولا يغيّر جلده لكل واحدة جديدة.
بين كلمتين
كتبت إليه تقول:
نشأت لي علاقة حميمة مع الكلمة.
احيانا اجدها مرآة لي افرح: كم تشبهني!
واحيانا اراها تزورّ عني وتغلق بابها دوني، واشم فيها رائحة غيري، بل انني المح في الفتحات والضمات وحركات السكون ملامح »الأخرى« او الأخريات.
أحيانا أضيع في طياتها، وأكاد أغرق في إيماءاتها التي قد تعنيني وقد تعني غيري… واندفع مع أوهامي وتخيلاتي فأكاد اكرهها، ويخطر لي أن أمزقها وأبعثر حوفها او أحرق الصفحة التي ارتسمت فوقها.
أقلبها، تارة، لأستكين في ظلها، وألتحف بها أحيانا لكي تمنحني الدفء.
وكثيرا ما تمنيت ان استوطن هذه الكلمة او تلك، لأنني المحك فيها.
اتدري: مرات فكرت أنني لو نجحت في أن ألج الكلمة فأمكث فيها حتى يجيء القلم فأتعرشه الى اليد ومنه الى الرأس… وما كان يثنيني غير جبني، وغير احساسي بأن القلم قد يسحقني سحقا!
أتراني داخلها أم خارجها؟
أتراني أنا من يحركه أم أنه يتحرك فيحركني ويدفع بي الى حيث شاء.
قلني كلمتك. قلني. قل… لكي يكون للحياة طعم وأسترد المعنى.
كثيرا ما فتحت السكون لاستقر فيها فطردني الفراغ.
كثيرا ما استلقيت هانئة فوق الفتحة متوهمة انها بساط الريح تحملني الى عش مغزول بأحلامي، تحف به طيور الجنة ويخصه القمر بخصلة من ضيائه الناعس.
أما الضمة فقد أتعبتني واتعبتها، لست اقبلها شكلا، ولست أقبلها وهما، وليست تقبلني بديلا منها… فأهرب منها مرة أخرى الى سكون القلق.
أخرج اليك من الكلمات، تدخل عليّ في الكلمات. تعلقني الكلمات في سماء بلا عمد.
هل لي أن اختار كلمتي؟!
لو اعرف القراءة كتبتك في قلب حرف الحاء، ذلك الحرف الذي، يحمل في لفظه كما في تكوينه كسرات الهمس الحميم.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تدخر شيئا من حبك لما بعد. أعط نفسك كلها. أعط حبيبك كلك. أنتما الزمان، أنتما البعد، أنتما القبل، أنتما الآن. خارجكما زمان الآخرين.
فاحفظا زمانكما بأن تكوناه وبأن تعيشاه لحظة بلحظة حتى الثمالة. اليوم هو العمر. كل يوم هو العمر. الغد في قلب اليوم لا خارجه. لا تستبق شيئا لغد إن أنت لم تعشه اليوم لم يأتك أبدا.